المقالات

30 نوفمبر في ضمائر الفقراء

لم يكن يوم الثلاثين من نوفمبر مجرد يومٍ لخروج المستعمر وتحقيق استقلال البلاد وتحررها والشروع في بناء الدولة الجنوبية كاملة الاستقلال والسيادة على كل أرض الجنوب، ولم يكن فقط يوم توحيد إمارات وسلطنات ومشيخات الجنوب في دولة واحدة تمتد من أقصى الجنوب إلى أقصاه، بل لقد مثل ذلك اليوم نقلةً تاريخيةً مختلفةً في حياة أبناء الجنوب ونقل ملايين الجنوبيين من مجرد أرقام عددية تتوزع على الجغرافيا الجنوبية إلى مواطنين لهم احترامهم ومكانتهم وحقوقهم والانتقال بحياتهم المعيشية والخدمية والمعنوية إلى مصاف العناصر الفاعلة والمنفعلة بكل ما يعتمل في حياة البلاد وصناعة مستقبلها.

أعرف أن الكثيرين لهم حسابات مغايرة مع الثورة والدولة الجنوبيتين وأتفق مع الكثيرين ممن يعترفون بوجود أخطاء وشطحات رافقت مسار التحول الذي تلى يوم الاستقلال وأعلان جمهورية اليمن الجنوبية، ثم الديمقراطية الشعبية، وأعرف الكثيرين ممن يتباكون على زمن المستعمر ويلعنون اليوم الذي يحتفل به أبناء الجنوب بإعلان دولتهم، يوم الثلاثين من نوفمبر، لكن ما لا يقر به المتباكون على زمن المستعمر، هو أن ملايين من أبناء الجنوب لم يعرفوا حقوقهم ولم يعيشوها ولم يستمتعوا بها إلا بعد الثلاثين من نوفمبر 1967م.

نحن لا نكتب شعارات ثورجية أو دعايات شعبوية، بل نتحدث عن وقائع حقيقية عاشها أبناء المدن والأرياف الجنوبية على مدى ما يقارب ربع قرن، لم يفقدوها إلا مع إعلان “كارثة الوحدة المباركة” التي طوحت بكل ما له صلة بحياة الناس، وانتقلت حقوق هؤلاء الكادحين من حياتهم واستحاقاتهمالسكنية والمهنية، ومن مدارس أبنائهم وبناتهم وعيادات أطبائهم، ومستشفيات مدنهم، وحقوقهم الخدمية التي كانوا يحصلون عليها بما يقترب من القيمة المجانية، انتقلت إلى الأرصدة البنكية لأشاوس (صنّاع كارثة الوحدة اليمنية المباركة).

في حديث لي مع أحد الزملاء العسكريين من ضحايا حرب 1994م، ممن دخلوا الحياة العسكرية والسياسية ربما قبل رشاد العليمي وسلطان البركاني ويحيى الراعي، ومن يصغرهم سناً من المتحكمين في حياة المواطنين، وربما قبل علي عبد الله صالح نفسه (ناهيك عن أحفاده وأبنائه وورثته) قال لي هذا الزميل معبراً عن سخطه: لا يوجد شعب في كل الدنيا تعرض للغدر والخديعة والاستغفال السياسي مثلما تعرض له شعب الجنوب، فبعد أن كان سيداً على أرضه وثروته ومستقبله، وبعد أن كان المواطن يبعث ابنه إلى المدرسة ويخلي مسؤوليته عنه، حتى ما بعد التخرج من الجامعة، والانتقال إلى العمل الميداني، وبعد أن كان يحصل على الضمان الصحي والتأمين الاجتماعي، والرعاية الاجتماعية المجانية للفئات المستضعفة، تخلى عن كل هذا بدون مقابل وأصبح عليه من اليوم التالي لـ”الكارثة” أن يبحث عن مصيره وسط عمليات الغدر والمكيدة التي تعرض لها، وليس ما يجري اليوم في جنوبنا الحبيب بأفضل مما جرى في العام 1990، ولاسيما بعد العام 1994م.

أحد الزملاء تدخل بالقول :

– لقد كانت المزايا التي تتحدثون عنها حكراً على المسؤولين وأعضاء الحزب.

لكن زميلي رد عليه بعصبية:

– ومن قال لك هذا؟ إن المستفيدين من كل هذه المكاسب كانوا هم الفقراء والمستضعفين أكثر من غيرهم من الشرائح الاجتماعية، ولكن أن تتخيل أن ابن عامل النظافة، ممن تسمونهم أنتم بالـ”أخدام” يدخل الجامعة ويتخرج طبيباً أو مهندساً أو محامياً أو قاضياً، في حين قد لا يحصل ابن المسؤول (الفاشل ) على مثل هذه الفرصة.

إن ذكرى الثلاثين من نوفمبر باقية وخالدة في عقول ووجدانات وأفئدة الفقراء والمستضعفين من أبناء الجنوب الذين نعموا بهذا المنجزات وغيروا حياتهم وحياة أبنائهم وبناتهم وأحفادهم وحفيداتهم بفضلها، أما الطبقات الطفيلية التي وإن عَلِقَت بجسد الثورة والدولة الجنوبيتين، فهي لم تخسر جراء فقدان هذه المكاسب، لا بل إن أغلب أفراد هذه الشريحة سرعان ما انخرطوا في الخارطة الجديدة لتوزيع المصالح، وأصبح بعضهم يقسم الأيمان المغلضة أنه لولا “الوحدة المباركة” لما كان عائشاً ما يعيشه من نعيم وهو محق فيما يقول لأن تلك ” الملعونة المباركة” هي التي نقلته من خانة المساواة مع كل المواطنين البسطاء إلى خانة كبار اللصوص والنصابين، والمستثمرين في السياسة.

أحد الزملاء كتب على حسابه على منصة (X) متسائلاً:

– لا علامة تدل على الاحتفاء بذكرى الاستقلال في صنعاء، ترى كيف هي الأحوال في عدن؟

علق عليه أحدهم:

– وماذا تتوقع يا صديقي حينما يكون المهيمنون على المشهد السياسي في العاصمتين هم أعداء الثلاثين من نوفمبر ومن لهم أكوام مكدّضسة من البغضاء والمقت والكراهية مع ثورة الجنوب واستقلاله؟!

قلت لهم:

– يا أصدقائي! . . حتى وإن احتفل هؤلاء بذكرى استقلال الجنوب وتبادلوا برقيات التهاني وألقوا الخطابات ونشروا التغريدات وأدلوا بالتصريحات، فإنهم إنما يعملون كمن يمارس عادة يومية باردة خالية مت الإحساس والنشوة والمتعة، كالاستحمام أو نتف الإبط أو تقصير شعر الرأس، أو ممارسة الكذبة السنوية في الأول من إبريل، أما الاحتفاء الحقيقي وإن لم يعلن ولم تصحبه البيانات والخطب وبرقيات التهاني (الزائفة) فهو في قلوب ومشاعر وأحاسيس ووجدانات البسطاء من الجنوبيين الذين أشعرتهم ثورة 14 أوكتوبر ودولة 30 نوفمبر بالفراق الهائل في حياتهم بين ما قبل وما بعد هذا التاريخ، ثم ما بعد بيعه في سوق النخاسة السياسية.

الخلود للثلاثين من ونوفمبر

والمجد والخلود لشهداء الثورة والاستقلال .



المصدر

جوجل نيوز

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى