علمّنة العقل العربي
فيما يتشكل نظام عالمي مختلف قائم على العلوم والمعرفة، فإن في المنطقة العربية واقع يتطلب قراراً حاسماً بما يتعلق بمفهوم علاقة العقل العربي بالعالم. الحريات صنعت أطراً متعددة في تشكيل السياسات المعرفية، فلم تعد العولمة من القضايا المثارة بعد أن اكتسحت كل الحوائط، وتحولت إلى أداة من مجموعة أدوات حققت منها الليبرالية أهدافها في الصراع الإيديولوجي بين الشرق والغرب، وهنا يبدو أن على العقل العربي أن يخرج من العزلة التي فرضها الخطاب الديني الأحادي الناشئ من نهاية القرن التاسع عشر.
هيمنّ الخطاب الديني واليساري على العقل العربي بعد تشكل الدولة الوطنية الحديثة، وتلازم ذلك الخطاب الحاد والقاسي على ما يفترض على العقل أن يحصل عليه من الحرية في التفكير والتقدير وبالتالي التقرير، ما حدث بعد نكبة 1948 ونكسة 1967 كان مفرطاً بحق الإنسان العربي الذي وجد نفسه يسير مجبراً في مسارات شديدة الانحدار أدت في نهايتها إلى تكبيل إرادة التفكير وأرغمته على الجمود العقلي بالاكتفاء بالتبعية لما جاء في الموروث العربي والإسلامي بتحريم النقد لمجمل ما تراكم من تلكم الموروثات بما عليها من غبار القرون.
دعاة التنوير حاولوا الدفع بتجديد الخطاب الديني باعتباره وسيلة يمكنها أن تحرر أكثر من تبعية العقل العربي بعد ظهور الإسلاموفوبيا في سبعينيات القرن العشرين وتنامي التيارات الإسلاموية، لم تنجح كل دعوات التجديد برغم الإجماع على ضرورة ما يطرح وظل محصوراً في حوارات مغلقة لم تجد سبيلاً لتنفذ إلى الواقع، التنويريون الجدد الذين خاضوا معارك ضارية لم ييأسوا وحتى وهم يرون ما حذروا الناس منه مع هبوب رياح ما سميّ بـ «الربيع العربي»، فهذه هي مجرد نتيجة من نتائج الانغلاق الفكري في بلاد ابتليت بجماعات تريد أن تذهب بالمجتمعات للماضي قسرياً، دونما مراعاة لواقعية المتغيرات وضرورات تجديد فقه الواقع.
اليساريون والمتأسلمون كل أعتقد أن الحل في التضاد والتعاكس مما أنتج مزيداً من الصراعات والحروب، هذه السياسات المتعاكسة لم تستوعب بعداً أن هناك فرصة أخرى عبر انتهاج مسلك آخر يمكن أن يؤدي للتقارب وتحقيق التعايش، فلقد شق المعتدلون والوسطيون مسلكاً ثالثاً بتبني رؤية تستوعب متحولات العصر بقوانين الدولة الوطنية الحديثة، وهذا ما قدمته مؤسسات الأزهر الشريف ومنتدى أبوظبي للسلم من رؤية لتجديد الخطاب الديني، على اعتبار أنه وسيلة لتجاوز الحواجز المصنوعة من قبل دعاة التشدد الديني وكذلك من جهة اليساريين العرب.
إعمال العقل في تناول الأمور الدينية والتراث والعربي بالمجمل منح فرصة مهمة ترجمت بإمضاء «وثيقة الأخوة الإنسانية»، شكلت حجر زاوية لمفهوم التجديد الديني على قاعدة احترام الآخر مهما كان ذلك الآخر، وهنا يبدو استيراد مصطلح «العلمّنة» كحجر يرمى به على بيوت زجاجية لعلها تتنبه أن فرصة تلوح يمكن انتهازها والتقاطها بانتهاج التنوير الذهني، عاش العقل العربي في جمود بمفاعيل تيارات وظفت أفكارها في قوالب السياسة، فبين يسار ناقم ومتأسلم ساخطاً توقفت الأشياء، فطبيعة العقل الحرية والانفتاح، فهذه فطرة ربانية جاءت عبر آيات في الذكر العظيم ﴿لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ﴾، و﴿وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ﴾، و﴿أَلَمْ تَرَ إِلَىٰ رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ﴾، ومرات كثيرة أمر فيها الله الناس إلى إعمال العقل تأكيداً لفطرة البشر.
لا مجال لغير القيادات السياسية في الدول الوازنة عربياً، الإمارات والسعودية ومصر، غير أن يقروا القوانين المعززة لتجديد الخطاب الديني، بتمكين المؤسسات الدينية الوطنية ورجال الدين والنخب الفكرية من أن يقودوا مرحلة إشغال العقل العربي بما عليه أن ينشغل فيه. فكفى جموداً وتكبيلاً لعقول الشباب العربي، فهذه ثروة مهدرة من الواجب الاستفادة منها لتحقيق الازدهار في منطقة لم تعرف ازدهاراً عبر العقود.