المقالات

مقاربات في إشكالية الهوية(4)

في الرد على هذا السؤال سنرحئ التعليق على التسمية التاريخية لمفردة “اليمن” باعتبارها تعني كلما يقع جنوبي الكعبة المشرفة من المناطق والبلدان حتى فصل لاحق، كما سنؤجل الحديث عن أن لـ”اليمن” معنيان: معنىً جغرافيا ويعني كلما يقع جنوب الكعبة كما أسلفنا، ومعنىً سياسي ويتمثل في المملكة المتوكلية ثم الجمهورية العربية اليمنية فيما بعد، لكننا نشير إلى أن تعبير “اليمن” كدلالة على كيان سياسي لم يظهر إلا بعد أكثر من عقد من تأسيس المملكة المتوكلية الهاشمية بعد رحيل الأتراك، حينما قرر الإمام يحيى تسمية مملكته بـ”المملكة المتوكلية اليمنية”، لكن ما بقي في الوعي الجمعي لدى كل من عاصر تلك المرحلة هو إن اليمن هي تلك البقاع والبلدان التي تقع جنوب الكعبة، وبالتالي فإن مملكة الإمام والسلطنات والإمارات التي تقع إلى جنوبها وشرقها كانت كلها يمنية وكلها جنوبية بالمعنى الجغرافي لمفردة اليمن، التي لا تعني سوى التعبير الآخر عن مفردة الجنوب، لكن ليس بالمعنى السياسي الذي صار لا يعني سوى مملكة الأئمة وورثتهم.

بيد إن الإمام يحيى عندما غير اسم مملكته كان يهدف إلى شيء أوسع من مجرد تغيير التسمية، فهو إنما كان يطمح إلى تحويل كل “اليمن” ( أي كل ما يقع جنوب الكعبة ) ليبقى جزءً من مملكته أو كل مملكته.

لكن لنرجئ كل هذا ولنتوقف عند الأسباب والظروف والملابسات التاريخية-السياسية التي أفضت إلى تسمية “جنوب اليمن” ثم “اليمن الجنوبي” وما يتصل بهذا من معطيات وأسباب وملابسات وتفاعلات.

لقد تميزت فترة الخمسينات من القرن العشرين بحصول حالة من الاستنهاض للوعي الوطني والقومي في عدن وبقية مناطق الجنوب، كما في عموم المنطقة العربية وقد اقترنت تلك الحالة بعاملين مهمين:

العامل الأول: ويتمثل في النهضة الثقافية والتعليمية والمدنية والاقتصادية بشكل عام في عدن وعدد من مدن الجنوب الرئيسية، وانتشار التعليم وتفتح وعي الناس على ما يشهده العالم من صراعات سياسية ونهوض للحركات التحررية الرافضة للاستعمار والمنادية بالاستقلال في أكثر من بلد، خصوصاً بعد استقلال الهند وباكستان ومصر والسودان وقبلهما سوريا ولبنان والإطاحة بالنظام الملكي في العراق وهذه الأحداث والتحولات لها خلفياتها وأسبابها التي يطول الحديث فيها، وبالمقابل ما جرى التعارف عليه بالنكبة الفلسطينية وإقامة دولة إسرائيل على الأرض الفلسطينية والاعتراف بها دولياً في العام 1948م.

والعامل الثاني: تمثل في قيام ثورة الضباط الأحرار المصرية في 23 يوليو 1952م وما رافقها من إجراءات اعتبرها الكثير من المؤرخين إجراءات “ثورية وتقدمية” تمثلت بالإصلاح الزراعي وتأميم قناة السويس ومشروع السد العالي وبناء مجمع الحديد والصلب في حلوان وغيرها من الإجراءات المعبرة عن نزعة التحرر والاستقلال وقطع الصلة بالماضي الاستعماري، ومن ثم احتدام الصراع مع المعسكر الاستعماري الذي بلغ ذروته في “العدوان الثلاثي” (الإسرائيلي-الفرنسي-البريطاني) على مصر في العام 1956م، الذي فشل في إسقاط النظام الناصري مما منحه سمعة قوية وخلق حالة من الدعم والمساندة المعنوية والسياسية (الواعية غالبا، وحتى غير الواعية أحيانا) وتنامي الشعور بالانتماء الوطني والقومي لدى السواد الأعظم من المواطنين العرب، ومنهم مواطنو المستعمرات البريطانية في ما كان يعرف بـ”الجنوب العربي”، وفي طليعتهم القوى والتنظيمات والأحزاب السياسية والمنظمات النقابية والاجتماعية وحتى بعض القيادات المشيخية والسلاطينية.

في هذا الإطار ومع انتشار الاتجاهين الرئيسيين في الحركة القومية العربية (التيار الناصري والتيار البعثي) وكلاهما يرفع شعار “الوحدة والحرية والاشتراكية”، طغى الشعور القومي على الشعور الوطني وصار الانتماء الوطني لا يعبر عنه إلا في إطار التعبير عن الانتماء القومي، وكل عربي لا يتحدث عن القومية إلا ويربطها بالقومية العربية، رغم الكثير من وجهات النظر الفلسفية والسيسيولوجية التي تعتبر القومية والأمة (Nation) هي الشعب الذي يعيش على أرض معينة ويتكلم لغتها ويقيم عليها نظامه السياسي والاقتصادي زهذا الموضوع يطول الحديث فيه.

وفي ظل هذا الزخم الثوري والمد القومي العربي نشأت فكرة ونظرية “الوحدة العربية”.

هذه الفكرة كانت قد سبقتها فكرة الوحدة الإسلامية في مطلع القرن العشرين سواءٌ إبان الاحتلال التركي للمنطقة العربية أو بعد سقوط الإمبراطورية التركية وانتقال النفوذ في المنطقة العربية إلى الاستعمار الأوروبي الغربي (البريطاني-الفرنسي)، وهي الفكرة التي تمخضت عن ولادة تنظيم الإخوان المسلمين كتنظيم عالمي، وعلى العموم فقد أخذت هذه الفكرة مداها الزمني وتراجعت من الواجهة بعد ما تمخضت عنه الحرب العالمية الثانية وبعد نكبة فبسطين ونشوء دولة إسرائيل 1948م، وما ترتب على كل هذه الأحداث المفصلية من تغيير عاصف في وعي المواطن العربي ونخبه السياسية.

وبغض النظر عن كل هذا فإن الأحزاب والتنظيمات السياسية التي نشأت في عدن وبعض عواصم الإمارات والسلطنات الجنوبية الأخرى كانت تعتبر الحديث عن الوحدة العربية الذي صار متلازمة يومية للثقافة السياسية العربية، لا يستقيم قبل الحديث عن “وحدة اليمن” وبدأ الحديث عن اليمن الطبيعية في كتابات المفكر اليساري الكبير الأستاذ المرحوم عبد الله عبد الرزاق باذيب وغيره من المفكرين السياسيين الجنوبيين، وشيئا فشيئا وبفعل التأثير المتبادل بين مثفي الجنوب ومثقفي الشمال مثلما بين الأحزاب السياسية الشمالية التي نشأت في عدن وبين الأحزاب السياسية الجنوبية، صار الحديث عن “وحدة اليمن” يحتل مكانة هامة في اللغة السياسية الجنوبية.

أن التدوين التاريخي لهذه القضية وما سارت عليه من عملية انتشار وتنامي وما رافقها من تصاعد ونكوص وقبول ورفض يطول ويتشعب لكن المهم بالنسبة لبحثنا هذا، هو إن الحديث عن “الوحدة اليمنية” كان عبارة عن شعار سياسي يقف على خلفية فكرة “القومية العربية” التي تتغنى بـ”الوحدة العربية والحرية والاشتراكية”، وما ينبغي الإقرار به هنا هو إن الفكرة كانت بنت ظروفها التاريخية والثقافية ومثلت تلك الأمنيات الوردية لجيل ذلك الزمن.

وعندما قامت ثورتا سبتمبر وأكتوبر وتشارك الانخراط فيهما أبناء الجنوب والشمال وإن بنسب متفاوتة، تنامت فكرة الانتماء إلى “اليمن الجديد” الخالي من الإمامة والاستعمار ومخلفاتهما، ونادراً ما كان التمييز بين الثوار يقوم على أساس الانتماء الجغرافي بل كان التمييز يقوم على التباين الفكري والسياسي وبالتحديد بين ما يحمله هذا الفريق السياسي أو ذاك من مشروع سياسي وما يسعى إليه من أهداف، بيد إن كل هذا لم يخلق اندماجاً حقيقيا ولا حتى تقارباً عضوياً بين الشعبين ولم يغير في تباين الهويات بينهما أو لديهما، وهذا ما يمكن التوقف عنده في مكان لاحق من هذا البحث.

وقد لعب الدعم المصري بقيادة الزعيم الخالد جمال عبد الناصر للثورتين في شمال اليمن وجنوبه، دوراً كبيراً في الحشد لفكرة يمنية الجنوب، خصوصاً وإن معظم مراكز حشد وتدريب الثوار الجنوبيين كانت في مدن شمالية، وأهمها مدينة تعز القريبة من الحدود الجنوبية، ومن هناك كان الثوار ينطلقون للقيام بمهماتهم في مهاجمة القوات البريطانية، وتنفيذ العمليات الفدائية في مناطق الجنوب، كما كان للثورة الجنوبية ممثلون لدى سلطة الجمهورية العربية اليمنية، حيث كان زعيم الجبهة القومية أول رئيسٍ للجنوب لاحقاً المرحوم قحطان محمد الشعبي وزيراً لشؤون الجنوب في حكومة الرئيس عبد الله السلال لفترة ليست قصيرة.

وخلاصة القول إن قضية “جعل الجنوب يمنياً” أو ما يسميه بعض الكتاب والصحفيين وناشطي التواصل الاجتماعي في الآونة المتأخرة بـــ”يمننة الجنوب” لم تكن مؤامرة من أحد ولا خديعة تعرض لها الجنوب وأبناؤه على يد أحد، بل لقد كانت فكرة نبيلة ذات أبعاد سياسية وقومية لاقت رواجها في ظروف تاريخية معينة كانت ملائمة لانتشارها، كجزء من الفكرة العروبية التي كانت ترى في الحدود بين البلدان العربية مجرد مؤامرة (استعمارية-رجعية) ينبغي رفضها والتخلص منها، وقليلاً ما لاقت هذه الفكرة رفضاً أو اعتراضاً من أية قوة سياسية، بل إن أكثر الناس معارضةً ورفضاً لها لم يصدر عنهم ما يعبر عن هذه المعارضة وهذا الرفض.

في هذا السياق علينا التمييز بين الشعار الذي يمكن أن يعبر عن أمنية أو حلم (معقول أو غير معقول) على ما في الفكرة والحلم من نبل وسمو، وبين تحول هذا الحلم أو الأمنية إلى حقيقة واقعة تعبر عن “هوية” أو “جزء من الهوية” كأمر ملموس وفعلي، حيث ظل شعار “الوحدة اليمنية” مجرد شعار سياسي يخاطب تطلعات معينة لأطراف سياسية ربما مثلت الغالبية العظمى من سكان الجنوب، إبان ما قبل الثورة الأكتوبرية وأثنائها وما بعدها، بيد إن الأحلام والتمنيات لا تبنى عليها حقائق ولا ترسم في ضوئها سياسات إلا عندما يتم غسلها من العواطف وتطهيرها من الهيجانات النفسية والاحتكام إلى العقل السياسي الواعي في صناعتها ورسم الخطط والبرامج الدقيقة والمحكمة لنقلها من خانة الأحلام إلى خانة الأفعال والوقائع.

وحتى تسمية التنظيميين الرئيسيين في ثورة أكتوبر “الجبهة القومية لتحرير جنوب اليمن المحتل”، و”منظمة تحرير جنوب اليمن المحتل” (التي صار اسمها لاحقاً جبهة تحرير جتوب اليمن المحتل) وكذا تسمية دولة الاستقلال بـ”جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية” كل ذلك لم يكن ليعني أن الجنوب قد صار جزءً من اليمن (السياسي) الذي استقر في الوعي الشعبي لعامة الناس، أو أن الهوية “اليمنية المفترضة” (هوية الجنوب وهوية الشمال) قد غدت واحدةً، بل ظل كل هذا تعبيراً عن تطلع صبغته ثقافة العاطفة القومية والحماس الثوري ذو الخلفية العروبية، وربما كان لثقافة “حرق المراحل” حضوراً في هذه الشعارات العاطفية الجياشة المتعالية على إمكانيات الواقع وممكناته.

ما هي تمظهرات نشوء وتطور الهوية الجنوبية؟

ذلك ما سنتوقف عنده في التناولة القادمة فانتظرونا.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* ملخصات من كتاب “القضية الجنوبية وإشكالية الهوية”

المصدر

جوجل نيوز

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى