المقالات

وداعاً أستاذي ومثلي الأعلى


بنفسٍ يغمرها الحزن ومشاعرَ يهيمن عليها الألم والحسرة تلقيت منذ دقائق نبأ وفاة أستاذي ومعلمي ومثلي الأعلى التربوي الفاضل والمناضل السياسي والشخصية الاجتماعية والوطنية المعروفة الأستاذ محمد علي ناصر قاسم الجبيري العمري اليهري.
غادر الأستاذ محمد الوطن في مطلع شبابه المبكر ضمن الآلاف من أبناء المنطقة الذين ضاقت بهم السبل وجذبهم المهجر العربي بحثاً عن مصدر للمعيشة الأفضل وتدبير مصدر للرزق في ظل ظروف التخلف والفقر وانعدام أبسط مقومات الحياة الحديثة في بلادنا مع مطلع ومنتصف الخمسينات من القرن العشرين.
استقر الشاب المهاجر محمد علي ناصر في دولة الكويت الشقيقة وهناك انخرط في العمل موزعاً وقته بين عمله الذي يتدبر منه معيشته، وتعليمه في المدارس المسائية والمشاركة في العمل الوطني والسياسي من خلال الانخراط في حركة القوميين العرب، ضمن المئات من المناضلين الجنوبيين الذين ساهموا بوسائلهم وما توفر لديهم من إمكانيات في دعم ثورة 14 أوكتوبر ومقاومة الاستعمار، وكانت الكويت مرتعاً خصباً لجميع التيارات الوطنية العربية الرافضة للسياسات الاستعمارية والمتطلعة إلى الحرية والاستقلال.
في العام 1968م عاد الشاب محمد حاملاً شهادة الثانوية العامة، التي كانت حينها أشبه بشهادة الدكتوراه، هذه الأيام، وربما أعلى منها، وادخر فقيدنا بجانب شهادته التعليمية مقدارا ممتازا من الثقافة السياسية والمهارة الإدارية التي اكتسبها من خلال عمله ومشاركاته في العمل السياسي الوطني في المهجر.
بعيد افتتاح المدرسة الابتدائية الجديدة في رخمة (وكان اسمها مدرسة خالد بن الوليد ثم صارت مدرسة الشعلة، ولاحقا مدرسة الشهيد يسلم حسين)، أقول بعد افتتاح المدرسة كان الأستاذ محمد من بين المعلمين الذين شاركوا في تأسيس وتطوير وتحسين عمل المدرسة وكنت مع العديد من زملائي من أوائل من التحقوا بالمدرسة، ومثل الأستاذ محمد مع القاضي زيد حنش عبد الله ذلك الثنائي الرائع الذي أضفى على اللوحة التعليمية في المدرسة جمالاً وجاذبيةً لا يمكن إنكارهما أو تجاهلهما وجذبا بشخصيتيهما الأثيرتين وأخلاقياتهما الرفيعة المئات من المترددين من جيلنا للالتحاق بالمدرسة، وطبعاً كان معهما كوكبة من المدرسين الأجلاء الذين ما تزال ذكراهم مغروسة في أعماق وجداننا نحن التلاميذ الأوائل.
بعد انتقال الأستاذ زيد حنش إلى مدارس جعار تولى الأستاذ محمد إدارة المدرسة بديلاً للأستاذ زيد، لكنه لم يلبث إن انتقل إلى عاصمة المركز رُصُد لتولي مهمة مساعد مشرف التعليم في المركز، وارتقى إلي عضوية المرتبة التنظيمية المسؤولة عن المركز، وفي هذا السياق كان له دورا كبيرا في تنظيم الإدارة التربوية وتحسين مستوى الأداء المدرسي والتاسع في شبكة المدارس الابتدائية التي كانت صفرا ما قبل ١٩٦٧، فأصبح لدى مركز رُصُد قرابة أربعين مدرسة ابتدائية خلال أقل من أربع سنوات.
وبعد أقل من سنتين تحمل الفقيد مهمتي مساعد المأمور والمسؤول التنظيمي للمركز وكان من أكثر القادة نجاحاً في مهماته ونزاهةً وإخلاصاً في عمله وتواضعاً وصدقاً في علاقاته مع الناس.
في العام 1975/ 1976م ابتُعِث الفقيد للدراسة الأكاديمية في الاتحاد السوفييتي، ليعود مع العام 1979م ويتولى مهمة رئيس الدائرة العامة بمنظمة الحزب الاشتراكي اليمني في محافظة أبين وبعدها يُكَلَّف بمهمة رئيس اتحاد الفلاحين في محافظة أبين حتى العام 1990م حينما انتقل إلى صنعاء بعد دمج اتحاد الفلاحين مع الاتحاد التعاوني الزراعي اليمني، تحت الإسم الأخير وبقي هناك عضواً في الهيئة التنفيذية للاتحاد التعاوني الزراعي حتى العام 1994م حينما جرى تطهير جميع المؤسسات والمنظمات الرسمية والاجتماعية من الجنوبيين الشرفاء، حيث غادر صنعاء عائداً إلى منزله في مدينة زنجبار ثم ليستقر به الحال في عدن بعد أن باع منزله المتواضع في عاصمة محافظة أبين.
تميز الأستاذ محمد بعدد من الصفات والسجايا النضالية والأخلاقية والإنسانية التي قلَّما تجتمع في شخصية واحدة.
كان التواضع والصدق والأمانة والنزاهة من السجايا التي رافقت الفقيد طوال فترة حياته وعمله المهني والسياسي والاجتماعي والتنفيذي.
وبمناسبة الحديث عن النزاهة فقد كان الكثير من زملائه يتندرون عليه بالقول “هذا الرجل لو وجد خزينةَ نقود مملوءة بالدولارات مفتوحة ومن غير حراسة أو بواب ومكتوب عليها ” هذه الأموال للسرقة”، فلن يمد يده ليأخذ منها دولاراً واحداً”
بعد العام 1994م اعتكف الفقيد العزيز في منزله ومارس احتجاجه على ما شهدته البلد من مظالم وانتهاكات وانهيارات معيشية وتربوية وسياسية وأخلاقية ووطنية بطريقته الخاصة، حيث اعتزل الناس واعتكف في منزله وسخَّر حياته للاهتمام بتربية أولاده وتدبير شؤون أسرته، غير مترددٍ عما آمن به من مبادئ وقيم ولا متراجعٍ عما اعتاده من سلوك النزاهة والنقاء والوفاء والصدق مع نفسه ومع الناس.
الفقيد الأستاذ محمد علي ناصر الجبيري من بين القلائل الذين يشكلون قدوةً للكثير من الأجيال، وشخصياً لن أنسى تلك الأيام التي كان يأتي فيها إلى المدرسة من إعلى قمة في منطقة العمري (قرية الجعشاء -مُشط) سالكاً الشعاب والجبال نزولاً وطلوعاً سيراً على الأقدام عابراً الأودية لمسافة تستغرق ما بين ساعتين إلى ثلاث ساعات، حتى يصل إلي المدرسة قبل أن يقرع الجرس بداية الدوام، وكان في الغالب يصل قبلنا نحن التلاميذ الذين نبعد عن المدرسة بأقل مسافة منه بل وقبل بعض أبناء القرى المجاورة للمدرسة.
تميز الفقيد بمستوى رفيع من الوعي الوطني والمهارة الإدارية والمعارف العلمية والتربوية، ما مكنه من القيام بجميع المهمات التي أسندت إليه على أفضل ما يكون.
إنني أشعر بالحزن والأسى لافتقادي لأحد معلمييَّ الذين تركوا بصمات مهمة في حياتي وحياة زملائي التعليمية والشخصية، فبرغم قصر الفترة التي قضيناها نتعلم منه في المدرسة الابتدائية وتحت إدارته للمدرسة قبل أن ينتقل منها، ثم العمل معا في إطار النشاط الحزبي والتنفيذي على مستوى محافظة أبين إلا إن اسمه سيظل محفوظاً في الذاكرة ما حييت نظراً لتمسكه بالسجايا الوطنية والأخلاقية والمهنية المميزة له عن الكثيرين ممن عشنا وعملنا معهم لفترات أطول.
بهذا المصاب الحزين لا يسعني إلا أن أتقدم بصادق مشاعر العزاء إلى أولاد فقيدنا العزيز المهندس علي والهندس خالد والمهندس صادق محمد علي ناصر، ووالدتهم العزيزة وإلى أخويه قائد علي ناصر والزميل المهندس زين علي ناصر، وإلى كل أهل الفقيد ومحبيه وذويه.
والعزاء موصول إلى جميع أهلنا في العمري ويافع عامة ومحافظة أبين وإلى كل الزملاء تلاميذ الفقيد وزملائه في التعليم والدراسة والعمل، ورفاقه في القيادة الحزبية والنقابية والتنفيذية.
أبتهل إلى الله العلي القدير أن يتغمد فقيدنا العزيز برحمته الواسعة وأن يغفر له ويتوب عليه ويسكنه فسيح جناته وأن يلهمنا جميعاً وكل أهله وذويه ومحبيه الصبر والسلوان.
وإنا لله وإنا إليه راجعون.


المصدر

جوجل نيوز

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى