مناقشات حول الثلاثين من نوفمبر العظيم
تحل علينا الذكرى السادسة والخمسين لعيد الاستقلال الوطني (الثلاثين من نوفمبر 1967م) وشعبنا الجنوبي يعيش مرحلةً استثنائيةً من التحديات والتعقيدات والمخاطر التي افرزتها مراحل الصراعات المحلية والإقليمية والدولية السابقة والراهنة .
هذه المرة بدأت البكائيات على الثلاثين من نوفمبر مبكرةً، ويقوم بها هذه المرة مجموعة من البكَّائين المتدربين والمبتدئين الذين لم يرضعوا من تاريخ ثورة الجنوب وأمجادها وبطولات شهدائها، ولا من تجربة التحرر من الاستعمار وعملية بناء الدولة الجنوبية الواحدة لأول مرة على انقاض ٢٣ دويلة من الكيانات المجهرية المتناثرة والمتناحرة، لم يرضعوا من كلِّ هذا سوى ثقافة النواح واستزراع اليأس وتوليد الإحباط ونشر ثغاء التشفِّي في أحسن الأحوال.
أحد الأسماء المغمورة كتب بعنوان “يتقاتلون ويحتفلون بعيد الاستقلال” مقالة لم تخلُ من الأخطاء الإملائية والجراماتيكية العديدة، والثاني من المبتدئين راح يكتب بعنوان “٣٠ نوفمبر عيد مجيد أم كابوس؟” ومثلمهما آخرون راحوا يستبقون الذكرى المجيدة للثلاثين من نوفمبر بالتباكي والنواح وعضِّ أصابع الندم على “النعيم” الذي قضت عليه دولة ٣٠ نوفمب، كما يزعمون، بتحرير البلاد من الاستعمار وحرمانهم ومعهم “الشعب الجنوبي” كما يزعمون، من هذا “النعيم” الذي اقتصروه على إن عدن كانت “جنة الدنيا”، ونسوا الحديث عن أرياف ومدن الجنوب الأخرى التي لم تعرف حبة الإسبرين ولا الطريق المعبد ولا الكتاب المدرسي الحديث و”السبُّورة” والطبشور ولا مركز الشرطة والمحكمة المدنية ومكتب المدعي العام، إلا بعد 30 نوفمبر 1967م، وتغافلوا عن الحديث عن الثورة الجنوبية كثورة اجتماعية ودولة وطنية مستقلة لها مكانتها في النظام الدولي، ثورة تعبر عن ررقيِّ إنساني وصناعة تاريخ جديد تستوطنه الحداثة والتقدم ودولة القانون والعدل الاجتماعي وخدمة الإنسان واحترام آدميته، وليس كتفاصيلَ منفصلةٍ عن بعضها كما يصورونها.
لم يختلف الذين تناولوا الذكرى المجيدة في منطقهم ولا في تصويرهم لثلاثين نوفمبر على إنه يوم الكارثة ويوم الصراعات والحروب والنزاعات المسلحة والانقلابات والمزايدات السياسية والسياسات الطائشة، بل لقد اتفقوا في كل هذا وراح بعضهم يصطنع من عنده أحداثاً ومسمياتٍ وأسماءَ أعطاها من التضخيم والمبالغة ما جعل من لا يعرف الجنوب وتاريخه المجيد يعتقد أن جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية الخالدة في ذاكرة الملايين من أبنائها لم تكن سوى مجموعة من الخطايا التي يصطنع بعضها ويضخم البعض الآخر منها هؤلاء الأفاقون.
لا يمكن التصدي لكل صوتٍ ناعق أو لكل وكيل من وكلاء نشر البغضاء وتعميم الإحباط واليأس بين أبناء الجنوب، فهؤلاء يتأثرون كتكاثر الفيروسات في مواسم الاوبئة، خصوصاً في ظل غياب الرأي الآخر الذي شغلت أصحابه نيران الحاجة والفقر والإفقار الممنهج وفي ظل روح الانكسار التي أصابت الغالبية بفعل الهزيمة السياسية والمعنوية وتبعاتها البغيضة، وبفعل انصراف بعض “الثورجيين” لبيع “ثورجيتهم” مقابل بعض المراكز الوظيفية ومستحقاتها المادية “القذرة”، لكننا ونحن نتحدث عن حدث تاريخي مجيد بحجم ٣٠ نوفمبر يمكن أن نتطرق إلى المعطيات التالية:
1. إن تجربة ٣٠ نوفمبر وتجربة الثورة الجنوبية عموماً مثل كل التجارب الثورية في العالم ليست فوق النقد والتقييم، لكن هناك فرق بين النقد العلمي المسؤول والذي يربط الظواهر والنتائج باسبابها وعواملها الموضوعية والذاتية وبين ثقافة التشهير والتقزيم والتزييف والتشفي، التي لا تقدم قرينة معللة لظاهرة معينة ولا تنطلق إلا من روح الضغينة وتوزيع اليأس وتصنيع الإحباط واستزراع السوداوية والعدمية بين أصحاب التجربة موضوع النقد.
والأكثر قبحاً من كل هذا حينما يتصدى لهذا النوع من النقد منبرٌ إعلاميٌ مشهورٌ بصناعة الخيبات وتوطين الهزائم ويخاطب جمهوره من مكانٍ قصي من كوكب الأرض مدعياً أنه وحده من يمتلك الحقيقة ومن عداه مارقون وكفار وخارجون عن الملَّةِ ما يستحق استباحة دمائهم وأرواحهم وأملاكهم وقتل نسائهم وأطفالهم، كـ”مفسدة صغرى” اتقاءً لـ”المفسدة الكبرى” المتمثلة في انتصار الكفار على المسلمين كما أفتى بعض “فقهائهم”.
2. لا يمكن لأي عاقل يؤمن بالطبيعة المعقدة للحياة التي يصنعها أناسٌ من البشر العاديين ممن ليسوا ملائكةً أو انبياءً مرسلين، إلا أن يقر بأن كل تجربة بشرية هي خليط من المحاولات والتجارب التي يتداخل فيها الخطأ والصواب، وبالتالي فإن تجربة ثورة ١٤ اوكتوبر ووليدها – دولة ٣٠ نوفمبر ١٩٦٧م لم تكن إلا كذلك، وإن افتراض حصول أخطاء وشطحات ونزعات متعجلة وما يسميه الباحثون السياسيون بمحاولات “حرق المراحل” كانت مسألةً واردةً، وهي مسألةٌ قابلةٌ للنقد البنَّاء الموضوعي الهادف لتشخيص العيوب وتناول مناطق الصواب والخطأ، لكن العيب في ما يتناوله هؤلاء المتدربون هو إنهم لا يرون في تجربة ٣٠ نوفمبر سوى (صراع الرفاق)، والشعارات، والاقتتال و(النزاع على الكراسي)، ولم يروا أهم منجزات ثورة واستقلال الجنوب، بدءًا بوحدة البلاد في كيان وطني واحد وبناء منظومة حكم مرجعيتها الدستور والقانون وتعميم المصلحة الوطنية لكل طبقات الشعب وتوفير الخدمات المجانية التي لم تتوفر حينها حتى لدى الدول المجاورة ومنها الدول النفطية الثرية، وإقامة دولة المواطنة التي يتساوى فيها الغني والفقير، والوزير والغفير، . . . ويتجاوزون كل هذا لا لشيء إلا لنفث قيح الغل وصديد الضغينة والكراهية.
3. إن نقد أي تجربة ليس عيباً ولا يمكن أن يكون سبباً من أسباب الحطِّ من شأن هذه التجربة، لكن النقد الموضوعي والبناء ينبغي أن يحمل في طياته رؤيةً موضوعية خلاقة تقدم البدائل والخيارات التي يمكن أن تصوب الأخطاء وتنمي من مواضع الصواب وتساعد على تقديم العلاجات الشافية للأمراض التي رافقت المرحلة موضوع النقد، وهو ما لا نلمسه عند كل الذين يتعرضون لنقد التجربة الجنوبية بكل مراحلها منذ الاستقلال عام 1967م حتى يوم 22 مايو 1990م الذي قاد إلى وأد هذا التاريخ المجيد من عمر الجنوب والجنوبيين.
4. إن الثلاثين من نوفمبر باعتباره يوم الحصول على الحرية والاستقلال وإعلان الدولة الجنوبية المستقلة والموحدة، سيظل يوماً خالداً في ذاكرة الجنوبيين الشرفاء سواءٌ كانوا من صنَّاع ذلك الحدث العظيم وأبنائهم وأحفادهم وأنصارهم أو من المواطنين الجنوبيين البسطاء الذي عرفوا بفضل هذا اليوم معنى حياتهم وكنه وطنيتهم وسر وجودهم الإنساني وأبعاد ومعاني حرياتهم وحقوقهم وانتمائهم وهويتهم الوطنية التي لم يعرفوها إلّا بعد ذلك اليوم المجيد، أما الذين في قلوبهم مرضٌ فهم معذورون ولهم الحق أن ينتحبوا ويتباكوا ويذرفوا دموع تماسيح الغل والزيغ والبغضاء التي تشتعل في صدورهم، لكنهم لم ولن يجدوا عنواناً لرسائلهم التي ذهب مستقبلوها إلى “حيثُ ألقت رحلها أمُّ قشعمِ”.
لذكرى الثلاثين من نوفمبر الخلود في ذاكرة الجنوبيين الأحرار وكل أنصار الحرية والكرامة الإنسانية.
ولشهدائها المجد والخلود في أنصع صفحات التاريخ الجنوبي المجيد.
وللشعب الجنوبي الحرية والكرامة والنصر المظفر في نضاله من أجل استعادة دولته الوطنية على أرضه التاريخية بحدود 21 مايو 1990م
“يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متمٌّ نورَهُ ولَو كَرِهَ الكافرون”.
المصدر