هل ما جري في 22 مايو كان "وحدةً يمنيةً" حقاً؟
تواصلاً لما كنت قد تحدثت عنه خلال تسع حلقات عن القضية الجنوبية وإشكالية الهوية اسمحوا لي أن أتوقف عند السؤال الجوهري التالي:
هل ما جري في 22 مايو كان “وحدةً يمنيةً” حقاً؟
كل من يتعامل مع مفهوم “وحدة اليمن” ويحاول الغوص في إشكاليات هذا المفهوم وتعقيداته ينبغي أن يأخذ بالاعتبار عدداً من المعطيات والمسارات والافتراضات والآمال وألإمنيات والمقولات والتفسيرات المتصلة بهذا المفهوم، حتى يمكنه استخلاص النتائج والعبر مما جرى طوال ربع قرن ونيف منذ محاولة توحيد الجمهوريتين (جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، والجمهورية العربية اليمنية)، نعني ما شهدته هذه الفترة من العواصف والتحولات والانقلابات والحروب والمواجهات والهزائم والانتصارات (المفترضة) وألاعيب الخداع والتمويه والمغالطات والنوايا السابقة والحالية واللاحقة والعذابات والنضالات وصراع الإرادات.
هذا بالضبط هو ما دفعنا للتساؤل عما إذا كان ما جرى يوم 22 مايو 1990 قد مثل فعلياً عملاً وحدوياً قابلاً للحياة؟
سيقتضي الأمر قبل الدخول في هذه المناقشة، التذكير بما تعرضنا له في مكانٍ سابق من هذه الدراسة، وما نعنيه هنا أمورٌ ثلاثة:
الأمر الأول: إن مفاهيم “اليمن الواحد”، و”الوحدة اليمنية”، و”شطري اليمن”، قد ظهرت في فترة زمنية معينة كانت العواطف الثورية والمزاج القومي يهيمنان على التكوين النفسي وعلى المساحة الأوسع من الوعي اليومي وحتى الوعي والخطاب السياسي العربي وبالتالي الجنوبي واليمني، وإن بنسب متفاوتة.
الأمر الثاني: إن هذه المفردات كانت شعارات سياسية وفي أحسن الأحوال تمنيات حسنة النوايا وتطلعات عاطفية لم يفكر رافعوها في مدى قابليتها للحياة من عدمها، كما لم يرسموا لها برامج نظرية ومخططات عملية للوصول بها إلى مرحلة التعاطي الفعلي والتطبيق العملي القابل للديمومة والبقاء.
والأمر الثالث: إن أكثر الناس وعياً وصدقاً مع هذه الشعارات كانت الأحزاب القومية واليسارية، ذات الخلفيات الناصرية والبعثية والاشتراكية التي كانت تقدم نفسها كأحزاب “تقدمية” بتعبير ذلك الزمن، وعندما وصلت الجبهة القومية إلى السلطة بعد خروج الاستعمار مهزوماُ وفي أجواء الابتهاج بتحرير البلد وإعلان دولتها الجديدة لم يناقش أحد موضوع تسمية الدولة بـ”جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية” فقد تنامى الشعور لدى معظم الناس بمدى الترابط بين البلدين، خصوصاً بعد الشراكة القوية التي نشأت في مسار الثورتين سبتمبر وأكتوبر وانخراط ثوار الثورتين في عمليات مشتركة في البلدين، وما مثلته مدينة عدن من ملاذ لكل السياسيين والمثقفين الشماليين الهاربين من قمع النظام الإمامي، وكذا ما مثلته مدن تعز وإب وقعطبة من منافذ دعم لثوار أكتوبر وحرية في الحركة، وملاذ آمن عند تعرضهم للخطر في أرض المواجهة مع الاستعمار، وما قدمه ثوار أكتوبر من مساهمات فاعلة في الدفاع عن النظام الجمهوري وفك الحصار عن صنعاء خلال السبعين يوما (نوفمبر 1967/ فبراير 1968م).
وخلال فترة السبعينات والثمانينات تكرس مفهوما “اليمن الواحد” و”الوحدة اليمنية” في الثقافة السياسية للأجيال الجنوبية الجديدة من خلال التعبئة الأيديولوجيية والتثقيف السياسي الرسمي، وحتى في فترات المواجهة المسلحة بين البلدين والنظامين، كان شعار “الوحدة اليمنية” هو المائز في اللغة السياسية للطرفين والمدخل لتهدئة المواجهات وتطبيع العلاقات بين النظامين بغض النظر عن اختلاف تفسير كلٍ من الطرفين لهذا المفهوم.
وسيكون من المهم الإشارة إلى نقطتين هامتيين في هذا السياق:
الأولى: إن قضية “الوحدة اليمنية” في الثقافة السياسية الجنوبية، لم تكن قضية تكتيكية بل كانت مبدأً استرتيجياً حرصت القيادة الجنوبية على تكريسه في وعي المواطنين الجنوبيين ليغدو رديفاً لمبدأ الوطن والسيادة والمستقبل، وغيرها من المعاني ذات المكانة المقدسة في الثقافة السياسية عامةً وعند الجنوبيين بوجه خاص.
وللإنصاف فإن تكريس هذا المبدأ قد دُشِّن منذ زمن مبكر كما جرى الحديث في مكان سابق من هذه الدراسة، وكان وراء هذه السياسة عوامل تاريخية وأيديولوجية معروفة تتصل بمراحل نهوض المد القومي الذي أطلقت عليه صفة “التقدمي” و”التحرري”، وهذا التكريس لمفهوم “الوحدة” لم يكن نتيجة مؤامرة ولا خديعة تعرض لها الجنوب وقياداته السياسية من قبل أحد، كما يحاول البعض أن يروج معتمداً على ثقافة التحريض والتسطيح والتهييج الشعبوي، فقد آمن بها القادة الجنوبيون منذ ما قبل الاستقلال واستمر التمسك بها طوال فترة حكم كل الرؤساء الجنوبيين منذ قحطان محمد الشعبي حتى علي سالم البيض وحيدر أبوبكر العطاس ومعهم كل القيادات الحكومية والحزبية العسكرية وحتى معظم الأحزاب والقوى السياسية الجنوبية المعارضة قبل الاستقلال وبعده، طوال فترة ما قبل الاستقلال وأثناء فترة الكفاح المسلحة ضد الاستعمار البريطاني حتى مايو 1990م .
الثانية: إن مفهوم “الوحدة اليمنية” كان يفسر تفسيرين مختلفين لدى القيادتين في الدولتين، فالجنوبيون كانوا يفسرون هذا المفهوم انطلاقا من أيديولوجيتهم القائمة على العدالة الاجتماعية ونصرة المظلومين ومحاربة الاستغلال والتمايز الطبقي وتعميم المصالح الوطنية والتوزيع العادل لموارد المجتمع، وكان مصطلح “اليمن الديمقراطي الموحد” تلخيصاً لهذا الفهم، وليس بخافٍ على أحد أن معظم المنظرين الجنوبيين وهم يتحدثون عن التوجه الاشتراكي كانوا يحرصون على أن الوحدة اليمنية لا بد أن تتماشي مع نهج التوجه الاشتراكي، بغض النظر عما إذا كانت ظروف نجاحه قد توفرت أم لا، وكان ذلك في أحسن فترات استقرار النظام في الجنوب، ناهيك عن مراحل النكوص وهزيمة المنظومة الاشتراكية نفسها في العقد الثامن من القرن الماضي بالتزامن مع ما شهدته اليمن الديمقراطية من أحداث مؤسفة في يناير 1986م وما ترتب عليها من جراح وطنية جنوبية صَعُبَ تضميدها واندمالها.
كل هذه الأحداث كان يجب أن تقتضي تغييراً في الموقف من مفهوم “الوحدة” ليس فقط من حيث المضمون والأهداف بل وحتى في طريقة التعاطي مع الخطوات العملية باتجاه تحقيق هذا الهدف الذي كان من النبل والقداسة بما لا يمكن لأي كان أن يقف في وجهه، بيد إن شيئاً من هذا لم يحدث فقد ظل الجنوب متمسكا بشعار الوحدة كهدف استراتيجي لا يمكن التراجع عنه بغض النظر عن أية اعتبارات، بينما كانت القيادة الشمالية ترقب هذه المعطيات وتتدارس في كيفية توظيفها لصالح مشروع لم يعلن بالضبط عماذا يتضمن.
وباختصار فقد جاء بيان عدن في الثلاثين من نوفمبر 1989م ومن بعده إعلان “الوحدة اليمنية” في 22 مايو1990م على خلفيتين فكريتين وتكتيكيتين وسياسيتين مختلفتين
1. ففي الجنوب الذي ظل يتعامل مع الوحدة اليمنية كـ”قَدَر ومصير” لكل اليمنيين، وجدت قيادة الحزب الحاكم أنه وطالما سقطت فكرة الاشتراكية كمنظومة حاكمة فإنه يمكن تحقيق الوحدة اليمنية على أسس الديمقراطية الليبرالية، التي يمكن أن تفتح الآفاق لقيام دولة يمنية موحدة متماسكة تعددية أساسها العدالة بين المواطنين والتنمية للمستقبل والحريات العامة والتداول السلمي للسلطة، وهدفها النهوض المتوازن للبلد باتجاه تحسين معيشة المواطنين كهدف استراتيجي لكل القوى السياسية اليمنية في الجنوب كما في الشمال.
2. وفي الشمال جاءت النظرة من زاوية مختلفة كلياً، حيث اعتقد الحكام هناك، بأن الجنوب وهو في لحظة الضعف السياسي والاقتصادي والعسكري، (أو هكذا هيئ لهم)، خصوصاً بعد أحداث 86م، أن هذا الجنوب جاء (هارباً) من الانهيار وقد أصبح بالإمكان التهامه بسهولة، خصوصاً وأن جزءً من الجنوبيين المؤيدين لنظام صنعاء سيكونون نصيراً مأموناً في حالة الدخول في صراع شمالي-جنوبي.
وللحديث بقية.
المصدر