المقالات

مقاربات في إشكالية الهوية (1)

ملاحظات أولية:
* كما وعدتكم بالأمس ، وإن كنت قد تأخرت بعض الساعات، فها أنذا أتناول ولعدة حلقات مقاربات في موضوع الهوية وهي مقتطفات من كتابي، الصادر منذ عام عن دار “يسطرون” بالقاهرة، بعنوان “القضية الجنوبية وإشكالية الهوية”
** أتمنى أن يتحمل المتابع الكريم ثقل وجفاف هذه الحلقة لأنها تمثل مقدمة نظرية لما سأتناوله في الحلقات القادمة حول إشكالية الهوية الجنوبية، ويمكن لمن لا يرى فيها فائدة أن يتجاوز عنها، مع إنني أجدها ضرورية لفهم ما سنتوقف عنده في بقية الحلقات.
* * *
من نافل القول أن الهوية ليست مجرد بطاقة تعريف أو جواز سفر يحمله صاحبه، ليكون بذلك قد اكتسب الهوية المعينة التي يمكن أن يقال بأن تلك هي هويته، رغم إن جواز السفر وبطاقة التعريف تمثلان دلالة رمزية لهذه الهوية، وبالعكس فإن هاتين الوثيقتين قد تكونان في بعض الأحيان سبباً لتعرض حاملهما لما يناقض معنى الهوية ويتصادم معه، فما أكثر الحالات التي حمل فيها أفراد وأسر وأحيانا جماعات كبيرة من الناس بطائق تعريف وجوازات سفر لبلدان ليست بلدانهم وهويات ليست هوياتهم، بل ما أكثر الحالات التي تعارضت فيها بطاقة التعريف وجواز السفر مع تطلعات وطموح ومصالح صاحبهما، وما أكثر الحالات التي غدتا فيها سبباً من أسباب العناء والشقاء والتعاسة لمن يحملهما.
وهكذا فإن البطاقة الشخصية وجواز السفر ليسا سوى تكثيفٍ رمزيٍ لانتماء حاملهما إلى المجتمع الذي تعبر عنه هذه الوثائق، وهما حتى حينما يعبران عن صاحب الهوية وعن هويته الحقيقية يظلان مجرد رمزين من رموز تلك الهوية وليسا هما تلك الهوية على الإطلاق.
فما هي الهوية إذن؟
لا يمكن الحديث عن تعريف واحد ووحيد، قاطع مانع للهوية كمفهوم فلسفي وسيسيولوجي وأنتروبولوجي، إلَّا من خلال مجموعة من المعايير والاعتبارات والمشتركات التي تجمع أصحاب الهوية الواحدة ببعضهم حتى يكونوا مجموعة بشرية مميزة عمن سواها من المجموعات ليكتسبوا تلك الهوية أو ما يمكن القول بأنه الهوية المشتركة.
لقد تناول العديد من المفكرين والفلاسفة وعلماء الإجتماع والأنثروبولوجيا قضية الهوية من زوايا وأبعاد مختلفة ولخص الكثير من هؤلاء تجربته في تعريف الهوية، لكن كل تعريف يظل محل جدال واختلاف وأحيانا نزاع طالما ارتبط هذا التعريف بجزئية محددة من هذا المفهوم المعقد، فهناك من تناول الهوية كظاهرة تاريخية، وأخرون تناولوا الهوية كمشترك إنساني اجتماعي وبعضهم تناول الجوانب المختلفة للهوية كالهوية الثقافية والهوية المهنية والهوية العرقية أو الإثنية أو القومية أو الوطنية.
وقد كان الفيلسوف والحكيم العربي الشهير أبو الوليد ابن رشد دائما يقول إن الهُوِيَّة (بضمِّ الهاء وليست بفتحها) هي ما يعبر عن الـ”هُوَ”، والـ”هُوَ” هنا تعني الإنسان الفرد بمضمونه وتجليات شخصيته، بمنازعه وطموحاته، بأهوائه وتطلعاته، بثقافته ومعارفه، بانتمائه وعلاقته بالوسط المحيط به، وبالمصالح التي يكونها ويشترك بها مع هذا المحيط.
أما المفكر المغربي د. محمد جماعة فيتناول موضوع الهوية من خلال القول بأن “لكل فرد أيضاً “مشاعر انتماء” مختلفة: تجاه أسرته، ودائرة أصدقائه، وقبيلته، وقوميته، ومكان ولادته، ومكان إقامته، ودينه، والمؤسسة التعليمية التي درس بها أو يدرس بها، والشركة التي يعمل بها، إلى غير ذلك”.
أما المفكر الفرنسي أليكس ميكشيللي فيتناول الهوية على إنها ”منظومة متكاملة من المعطيات المادية والنفسية والمعنوية والاجتماعية تنطوي على نسق من عمليات التكامل المعرفي”، مؤكداً “وعلى الرغم من البساطة الظاهرية التي يتبدى فيها مفهوم الهوية فإنه وعلى خلاف ذلك يتضمن درجة عالية من الصعوبة والتعقيد والمشاكلة وذلك لأنه بالغ التنوع في دلالاته واصطلاحاته”.
وفي إطار تأكيده على صيرورة الهوية وقابليتها للتغير والاتساع والتضيق وعدم ثباتها، يضيف ميكشللي “فالهوية ليست كياناً يعطى دفعةً واحدةً وإلى الأبد، إنها حقيقة تولد وتنمو، وتتكون وتتغاير، وتشيخ وتعاني من الأزمات الوجودية والاستلاب”[i]
ويمكننا ونحن نتحدث عن هوية الفرد القول، بكل تواضع ولكن بيقين، إن الهُوية هي تلك السجايا والخصائص والخصال والمميزات التي تجعل فرداً ما يتميز عن سواه من الأفراد سواءٌ ببنيته الجسدية أو بثقافته ومعارفه، أو بعاداته وسلوكياته أو بخصائصه البيولوجية والفيزيولوجية، أو بقدراته البدنية والذهنية وغيرها من المزايا والخصال، بيد إن هذا الفرد لا يمكن أن يعيش منفصلاً عن مجتمعه وبيئته البشرية المحيطة التي يتعاطى معها ويتقاسم فيها العيش المشترك والمصالح المشتركة والتاثيرات والتأثُّرات المشتركة مع بقية الجماعة الاجتماعية والتي بدورها تكون عاملاً من عوامل نشوء ونمو وتبلور الهوية المشتركة بين أفراد هذا المجتمع أو الوسط الإنساني.
لكننا وقبل المزيد من الخوض في هذا المفهوم الشامل والعريض للهوية ينبغي أن نتوقف عند عدد من مستويات ومحتويات الهوية، حتى نصل إلى الفهم الأعمق لما نسعى إلى تبيانه أو محاولة استكشافه من تعقيدات المفهوم الذي نحن بصدده، وفي هذا السياق يمكن الحديث عن المستويات والأشكال التالية للهوية:
– الهوية الفردية (أو الشخصية)
– الهوية الدينية
– الهوية الثقافية
– الهوية المهنية( من منظار الكفاءة والمهنة ونوع العمل)
– الهوية الوطنية
ولن نتوقف مطولاً عند كل واحد من هذه المناحي والمستويات للهوية، لكننا سنتناول لاحقاً مفهوم “الهوية الوطنية”، التي ستمثل مدخلاً لدراسة ما أسميناه ب”إشكالية الهوية الجنوبية”، في إطار دراستنا لثنائية القضية والهوية الجنوبيتين.



المصدر

جوجل نيوز

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى