اخبار محليةصحيفة المرصد

هنري ديفيد ثورو الصارخ في البرية

لا أعرف كيف لا نكره روبنسن كروزو أو طرزان أو هنري ديفيد ثورو؟ كيف وقد أثبتوا لنا أنهم في غنى عنا، وعما نعتز به من روابط نحرص على غرسها في أعماق أرواحنا؟ كيف ونحن نتواصى بالجار ولا جيران لهم، وننشد الجنة تحت أقدام الأمهات وهم هجروا أمهاتهم، ونتكافل في الملمات ويواجهونها منفردين، ونتجمع في الأفراح وأفراحهم صامتة في صدورهم؟ كيف ونحن على ما نحن عليه وهم على ما هم عليه نتقبل نجاحهم بغير أسبابنا، ونتسامح مع تخليهم طوعاً أو كرهاً عن الروابط التي نسميها (المجتمع)؟ بل لعلنا لا نتقبلهم وحسب، ولكننا في قراءتنا عن هؤلاء يملؤنا الحماس لهم، والخوف عليهم، والترقب الشديد لنجاحهم، لأننا نرى أنفسنا فيهم، ولو أنهم النقيض الذي يفضح ما نحن إياه.

نقرأ روبنسن كروزو فنرقب معه الأرض التي ينجح في زراعتها، والماعز التي يتمكن من تدجينها، فننتظر المحصول في شغف، ونحصي معه النسل الجديد، ونطمئن إلى المؤونة وهي تتراكم في كهفه، ونشاهده في نسخة توم هانكس السينمائية وقد نبتت له لحية شعثاء يلقي رمحاً سقيم الصنعة يظفر له بسمكة حية من البحر فيضع كل منا وساماً على صدره كأنه الذي حذق الصيد إلى هذا الحد.

لا أحسب أن سبب تلك المشاعر الوحيد هو أن هؤلاء الناجين بلا فضل إلا لأنفسهم يعطوننا أملاً في أننا يمكن أن ننجو من محنة مماثلة، ولكن لأنهم دعوة دائمة لنا كي نخطو هذه الخطوة الواحدة فنفلت بعدها من قيودنا.

غالبية الواحد… هنري ديفيد ثورو الصارخ في البرية

لورنس بيول يستعيد في كتابه “التفكير العاصي” سيرة الكاتب الذي حاز شهرة عالمية بعدما حكى قصة إقامته لما يربو على عامين منعزلاً في غابة على بحيرة والدن  

لوحة بريشة بيكاسو عن الإنسان والطبيعة (متحف بيكاسو)

لا أعرف كيف لا نكره روبنسن كروزو أو طرزان أو هنري ديفيد ثورو؟ كيف وقد أثبتوا لنا أنهم في غنى عنا، وعما نعتز به من روابط نحرص على غرسها في أعماق أرواحنا؟ كيف ونحن نتواصى بالجار ولا جيران لهم، وننشد الجنة تحت أقدام الأمهات وهم هجروا أمهاتهم، ونتكافل في الملمات ويواجهونها منفردين، ونتجمع في الأفراح وأفراحهم صامتة في صدورهم؟ كيف ونحن على ما نحن عليه وهم على ما هم عليه نتقبل نجاحهم بغير أسبابنا، ونتسامح مع تخليهم طوعاً أو كرهاً عن الروابط التي نسميها (المجتمع)؟ بل لعلنا لا نتقبلهم وحسب، ولكننا في قراءتنا عن هؤلاء يملؤنا الحماس لهم، والخوف عليهم، والترقب الشديد لنجاحهم، لأننا نرى أنفسنا فيهم، ولو أنهم النقيض الذي يفضح ما نحن إياه.

نقرأ روبنسن كروزو فنرقب معه الأرض التي ينجح في زراعتها، والماعز التي يتمكن من تدجينها، فننتظر المحصول في شغف، ونحصي معه النسل الجديد، ونطمئن إلى المؤونة وهي تتراكم في كهفه، ونشاهده في نسخة توم هانكس السينمائية وقد نبتت له لحية شعثاء يلقي رمحاً سقيم الصنعة يظفر له بسمكة حية من البحر فيضع كل منا وساماً على صدره كأنه الذي حذق الصيد إلى هذا الحد.

لا أحسب أن سبب تلك المشاعر الوحيد هو أن هؤلاء الناجين بلا فضل إلا لأنفسهم يعطوننا أملاً في أننا يمكن أن ننجو من محنة مماثلة، ولكن لأنهم دعوة دائمة لنا كي نخطو هذه الخطوة الواحدة فنفلت بعدها من قيودنا.

henry-david-thoreau-by-lawrence-buell.jpg

غلاف كتاب “هنري ديفيد ثورو: التفكير العاصي” (أمازون)

“الفلسفة المتعالية”

ولننصرف الآن عن كروزو وطرزان، فهما في النهاية شخصيتان من نسج الخيال، أما ثورو فمن لحم ودم، كاتب أميركي كان ضلعاً أساسياً من حركة “الفلسفة المتعالية” (الترانسندنتاليين) الأميركيين حاز شهرة عظيمة في العالم وترك أثراً كبيراً في كثر بكتاباته في الطبيعة والسياسة والمجتمع، وبأشهر نصوصه على الإطلاق أي كتابه (والدن، أو حياة الغابة) الذي حكى فيه قصة إقامته لما يربو على عامين منعزلاً في غابة على بحيرة والدن.

أثار (والدن) رغبة عارمة في محاكاته، سواء في الحياة المعيشة أو في خيال الكتابة، لكن لثورو نصاً آخر لا يقل أهمية هو مقال “العصيان المدني” الذي قد يقل شهرة عن (والدن)، لكن يصعب وصفه بالمغمور، إذ يعد من كلاسيكيات الأدبيات السياسية في أميركا والعالم.

ويوشك هذان النصان أن يكونا موضوع كتاب صدر حديثاً عن مطبعة جامعة أكسفورد في نحو 140 صفحة بعنوان “هنري ديفيد ثورو: التفكير العاصي”، من تأليف لورنس بيول، وهو أستاذ فخري للأدب الأميركي في جامعة هارفرد ويعد من مؤسسي ما يعرف بحركة النقد البيئي.

وثورو بحسب ما يرد في عرض نيويورك ألماناك لهذا الكتاب في الـ15 من سبتمبر (أيلول) 2023، “يعد رمزاً للبيئة الأميركية الحديثة، ومن آباء الكتابة الأميركية في الطبيعة، ورواد علم الإيكولوجي (البيئة) الحديث”. وعلى رغم أنني شخصياً لا أرتاح لربط ثورو بـ”البيئة” لتقديري أن هم البيئة كله لاحق على ثورو الذي كانت له منطلقات فكرية مغايرة، لكن يبدو أن مركزية الطبيعة في فكر ثور هي النقطة التي التقى عندها به لورنس بيول، وإن جعل تركيز كتابه الأساس منصباً على العصيان.

المؤلف لورنس بيول (فيسبوك)

إحساس القوة

يكتب تود شاي أثناء استعراضه للكتاب “لوس أنجليس ريفيو أوف بوكس” 7 نوفمبر (تشرين الثاني) 2023، أن “إحساس الناس بالغ القوة بثورو، ولعل ذلك لأن إحساسه هو كان بالغ القوة بكل الأشياء تقريباً. والتحدي الذي يواجه جميع قراء ثورو، مهما يكن رأيهم النهائي فيه، هو أن مشاعره القوية لا تستقيم مع منظور منضبط يسير التناغم للعالم. فمثله العليا تتنافس وتتصارع بمثل ضراوة الصراع بين النمل الأحمر والنمل الأسود الذي يشاهده على ضفة بحيرة والدن. فيجد كل من يقرأ والدن أنه مدفوع إلى تحديد الجانب الذي ينحاز إليه ثورو حقاً كلما احتدمت الأمور أو أن يحدد كيف يفهم تناقضات ثورو البادية دون أن يصالح بينها بسهولة”. ولعل ذلك ما يشير إليه بيول عن الصراع بين أنفس ثورو العديدة كما سيتبين لاحقاً.

يقول شاي إن “اجتناب الموازنة اليسيرة بين مختلف أفكار ثورو هو سر قوة دراسة (التفكير العاصي)، فقد قضى بيول الأستاذ الفخري بجامعة هارفرد عمره كله في الكتابة عن (الترانسندنتاليين)، وبعد هذا العمر من الدرس ينصحنا بالصبر على تعقيدات ثورو الكثيرة، قائلاً (إن المسارعة إلى إصدار حكم حق أصيل للقارئ بطبيعة الحال، ولكن خير للقارئ أن يفهم كيف انتهت أفكار ثورو وأفعاله إلى ما انتهت إليه وكيف تسنى لها أن تصل إلى كل من وصلت إليهم)”.

يكتب كوستيكا براداتان في ملحق التايمز الأدبي 2 فبراير (شباط) 2024، أنه “في الرابع من يوليو (تموز) سنة 1845 أعلن رجل من كونكورد بولاية ماساتشوستس استقلاله، إذ انطلق إلى غابة قريبة، وعلى ساحل بحيرة هناك، أقام ذلك الرجل، وهو هنري ديفيد ثورو، كوخاً خشبياً صغيراً ليجعل منه مسكنه على مدار عامين وشهرين ويومين. ومن تلك القاعدة، بدأ مشروعاً فلسفياً يقوم على أن يعيش معتمداً على (عمل اليدين فقط). وعلى رغم هذه الراديكالية الظاهرة، لم تكن التجربة منقطعة الصلة عن ماضيه، وإنما كانت الذروة المنطقية لسنين من البحث والتلمس. فمنذ تخرجه في هارفرد سنة 1837 جرب ثورو كثير من السبل لكسب العيش، ومن حسن الطالع أنه أثبت كفاءة في كل ما مارسه تقريباً. حتى إنه لما طولب مرة بوصف وضعه المهني قال (لا أعرف أهو مهنة أم حرفة أم غير ذلك. أنا ناظر مدرسة، ومدرس خصوصي، وماسح أراض، وبستاني، ومزارع، ونقاش، ونجار، وبناء، وعامل باليومية، وصانع أقلام رصاص، وصانع ورق مقوى، وكاتب، وفي بعض الأحيان متشاعر)”.

هنري ديفيد ثورو (غيتي)

السباحة عكس التيار

يرى براداتان أن ثورو بهذا كان مؤهلاً للنظر في طبيعة العمل وغايته ومعناه. ويرى أنه كان بفطرته “معارضاً، منشقاً، نزاعاً إلى السباحة عكس التيار (حتى إن صديقه ومرشده رالف والدو إيمرسن وصفه بـ(المشرب بالتمرد)، وعندما خرج من الغابة أخيرا، بعد سنتيه وشهريه ويوميه، كان قد قرر ألا يتولى عملاً أو يمتهن مهمة، وإنما أن يعيش بين الناس ذبابة مزعجة” والمقصود بالذبابة gadfly هنا أن يمشي بين الناس يحدثهم بالحقيقة التي لا قد لا يحبون أن يعرفوها. يكتب ثورو في والدن (1854)، “أنا لا أعتزم أن أكتب أنشودة في الغم، وإنما أصيح في نشوة كل صباح صياح ديك واقف على مجثمه، لا أريد إلا إيقاظ جيراني”، فقد أتاحت العزلة الاختيارية لثورو أن “يرى اختلافه بعين جديدة، ويفهمه من داخله، ويتحد به اتحاداً”.

يكتب كوستيكا براداتان أن الزمن كان زمن تغيرات كبرى، تحولت فيه أميركا من بضع ولايات متناثرة، متخلفة عن أوروبا، إلى لاعب رئيس على المسرح العالمي، وفيه تغير النسيج الاجتماعي كله وتبدلت الذات الأميركية ونهبت الطبيعة نهباً، ورأى ثورو ذلك بعينيه في عام 1843 حينما زار نيويورك وكانت في طليعة تلك الحركة الكبرى بالتطورات التكنولوجية السريعة، وتراكم الثروة، والاندفاع المحموم إلى الرخاء، وتسارع إيقاع الحياة بعامة، فخشي أن تنتهي كل مظاهر التقدم تلك إلى “قتل الإنسانية” في الناس، وكتب في يومياته “لقد سرت بالأمس في نيويورك، فلم أقابل شخصاً حقيقياً حياً”، وفي حين أن المستقبل بدا مشرقاً في أعين البعض فإن ما رآه ثورو لم يسره، “أخجل من عيني وما وقعتا عليه. إنه أحط ألف مرة مما كان يمكن أن أتصور. شيء جدير بالكره”، “ولسوف يتبعه ذلك الانحطاط من نيويورك إلى ماساتشوستس، ليعترض في (والدن) على دخول السكك الحديد إلى كونكورد، على مرمى حجر من كوخه، “يا لصخبه اللانهائي! إني لأستيقظ كل ليلة تقريباً على لهاث القاطرة، تقطع عليَّ أحلامي، فما من سبت [أي: راحة]”.

“أمام هذه السرعة الجديدة طرح ثورو طرحه الخاص: أبطئوا، افعلوا أقل القليل الذي تحتاجون إليه، وإن لم تفعلوا شيئاً فذلك خير لكم. لماذا ينبغي أن نكون على هذا القدر من اللهفة إلى النجاح في مثل هذه المساعي البائسة؟ لو أن إنساناً يسير بغير إيقاع رفاقه، فلعل ذلك لأنه يسمع دوي طبول مختلفاً. فليخط هذا مجارياً الموسيقى التي يسمعها”.

يقول براداتان إن ثورو “لم يرد فقط أن يعيد السبت إلى عالم بدا أنه فقد السبت، وإنما أراد ما قاله في خطبة التخرج في هارفرد قبل سنوات، (ينبغي قلب نظام الأمور على عقبه. فيكون السابع هو يوم كدح الإنسان. والستة الأخرى هي سبته وسبت روحه ومشاعره)”.

يقول براداتان إن لورنس بيول يسعى في كتابه “التفكير العاصي” إلى فهم أعم للشخصية المعقدة التي تبنت هذه النظرة إلى العمل والحياة (يكاد الكاتب يطرح أن أشخاصاً عدة كانوا يسكنون نفس ثورو، وأنهم ما كانوا دائماً مطمئنين إلى بعضهم بعضاً. فأحدهم الكاتب صاحب المقالات المتمردة والمذكرات الجامحة عن ترحاله في شمال شرقي أميركا، والثاني هو (المنظر السياسي الراديكالي والناشط المناهض للعبودية)، والثالث (عالم الطبيعة الميداني والكاتب الفذ عن الطبيعة بصورة خاص) والرابع هو (مهووس القرية)”. وعلى رغم هذا الزحام من الناس، يجد بيول إحساساً بالوحدة والانسجام في ثورو، فقد كان دائماً نفسه، في كل ما فعل أو ما كتب أو حيثما ذهب. “والحق أن السعي إلى أن يكون نفسه هو جوهر مشروع ثورو الفلسفي، إذ يشير بيول إلى أن (حياته وفكره وكتاباته كلها قطعة واحدة، لا تشذ عنها حتى التذبذبات والتناقضات الذاتية)”.

المصدر

جوجل نيوز

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى