أهازيج وأغاني موسم الذًري في يافع
قال الحميد ابن منصور
ذريت والذاري الله
هو ذي يتم المذاري
***
تزخر بلاد يافع، كغيرها من مناطق بلادنا، بالعديد من ألوان الغناء الفلكلوري الذي ظلت تتناقله الأجيال منذ أزمنة غابرة. ومنها تلك الأهازيج والمهاجل والأغاني التي ترافق جميع أعمالهم. فالحياة لدى اليافعيين، بشكل عام، قصيدة، أنشودة، أغنية، مهجل، زامل، موال، ولكل عمل غناؤه الخاص يرددونه ألحاناً أصيلة في كل شئون حياتهم ، ولعل من الصعوبة بمكان إحصاء وتدوين كل الأنماط الغنائية لكثرتها واختلافها بين منطقة وأخرى من حيث المضامين، لكنها تتقارب من حيث الألحان والحركات المصاحبة لها.
والمجتمع اليافعي مرتبط أشد الارتباط بالزراعة التي كان يمتهنها معظم السكان لاعتمادهم الرئيسي عليها في معيشتهم، وارتباطاً بذلك كانت أغاني الزراعة هي الأكثر شيوعاً بينهم مقارنة ببقية الأنماط الأخرى.. وقل أن تجد من يعمل أو يحرث في أرضه الزراعية (الطين-الجربة- الحقفة) طوال مواسم الدورة الزراعية المتنوعة دون أن يغني أو يردد مواويل وأهازيجاً وألحاناً تتناسب مع ما يقوم به من عمل.. فلحرث الأرض وتهيئتها وتقليب تربتها قُبيل البذار على الثيران (الضمد) غناء خاص يرددون فيه أقوال الحميد بن منصور. ولموسم البذار أغانٍ خاصة به.. ولفصل الأوراق عن قصب الذرة وهو ما يعرف بـ(البرياش، الشرياف، الجِمّاش) غناؤه الخاص، ولموسم الحصاد (الصراب) غناؤه كذلك.. وعند (السناءة) أي سقي الأرض من الآبار يرددون مواويل وأهازيج الحكيم شرقه بن أحمد.. وهكذا الحال في بقية الأعمال ..
ومن المعروف أن الناس يصومون ويحجون وفق التقويم الهجري، أما في الزراعة فيعتمدون على التقويم الشمسي الذي يقسم السنة إلى 365يوماً، وهو ما يُعرف بالتقويم الفلكي بمسمياته المختلفة والذي يعتبر أساساً لتنظيم أعمال السكان الزراعية، وقد عرفوا تلك المواسم بتجاربهم الطويلة والمتراكمة وبرعوا في معرفة النجوم وأوجه القمر والشمس وأحوال الجو ومواسم الحر والبرد وهبوب الرياح الممطرة وغيرها من الظاهر الطبيعية التي تعرض في أوقات محددة من السنة. لأن حياتهم كانت مرتبطة بهذه الحوادث، فقد كانوا يسعدون بهطول الأمطار التي يعتمدون عليها في زراعتهم ومعيشتهم، وأجمل التراحيب لديهم هي (يا مرحبا حيا تراحيب المطر) كما كانوا يضيقون لانحباس المطر في سنوات القحط والجفاف.
ولأن يافع إقليم واسع المساحة، ومختلف التضاريس المؤلفة من سلاسل جبلية وأودية منخفضة، فإن مواسم البذار بين منطقة وأخرى تختلف بعض الشيء، حسب نوعية الأرض وعوامل الدفء أو البرودة ونوعية التربة ..الخ. ولهذا يقولون في أمثالهم “ِإذرَأ مُوَاسِمْ ولا تذرأ مَقَاسِمْ”، والمقاسم هي عدة مدرجات زراعية، ويضرب للحث على زراعة المحاصيل في مواسمها ومواعيدها المحددة وفقاً للتقويم الفلكي الذي يعرفه المزارعون جيداً بخبرتهم المكتسبة والمتوارثة لكي تعطي أرضهم محصولاً وفيراً. ومن الصحيح أن الوقت جميعه مناسبٌ لذري المحاصيل المختلفة، ولكن الذرة، التي تعد المحصول الرئيسي للسكان، لها (حل) أي وقت محدد للبذار، وإلا فسدت أو ضعفت محاصيلها:
قال الحُميد ابن منصور
الوقت كُلّه مذاري
أما الذرة قد لها حل
ومن علامات دخول موسم الذَّري هبوب رياح (نَوْد) من جهة معينة يعرفها المزارعون، فإذا هبت سارعوا إلى البدء بالذري مرددين:
هزَّت نَوَيْد المَذاري
يا ثَوَر لَا مَنْتْ دَارِي
ولمعرفة مواقيت بذار حبوب الذرة يقولون في أمثالهم الزراعية ” لا أنت أَوْرِي( ) من الزمان، أخِّر ثلاث وثمان)، أي إذا كنت تجهل مواعيد البذار فأخر أحدعشر يوماً، عن موعد بذار العام الفائت، وهي الفرق بين السنة الميلادية (الشمسية ومدتها 365يوماً ورُبع يوم) والسنة الهجرية (القمرية مدتها 354يوماً وخُمس وسُدس يوم).
وفي العادة يبدأ موسم البذار (الذَّرِيء) أو (الذَّري) للذرة بشكل عام، خلال شهري مايو ويونيو، مع تفاوت بين المناطق، ففي كلد يذرأون الغِرْبة والكَوَري والمنزلة، من أصناف الذرة الرفيعة، في أواخر ابريل وبداية مايو، أما أواخر شهر مايو وشهر يونيو بالكامل فهو موسم ذري الدخن، ومن أهازيجهم التي يرددونها أثناء ذلك:
بيل وا هيِّه
وا رُويعيِّه
وا لكم ترعين
برعي الميتين
زائده ثنتين
***
هش وا زيل
من طريق السيل
عافني يا رب
والبلد تشرب
من كرع لمزان
تروي الظمآن
يتم إخراج حبوب البذار المنتقاة والمحتفظ بها بعناية من موسم الحصاد الفائت، لاستعمالها في بذر الأرض في مثل هذه الأيام خاصة بعد أن ينعم الله على الأرض بالمطر ، كما حدث هذا الصيف في مناطق كثيرة من يافع.
ويستهل المزارعون يومهم باكراً وهم يرددون مواويل التوكل على الله ، كقولهم:”
قال الحميد ابن منصور
ذَرَيْتَها حَبّ يَابس
يا رَبّ وانته المُقَايس
**
يالله من أيدي إلى أيدك
ماهل من ايدي شريحه
والا انك انت المزرع
وهناك طريقتان للبذار متبعة في يافع وفقاً وطبيعة وحجم الأرض الزراعية. الطريقة الأولى وهي الأكثر اتباعاً في قطع الأراضي الواسعة تسمى ( السُّلق/السُلْقي) وهو اسم الأخدود أو التلم الذي يشقه المحراث في الطين. ومصطلح (السّلق) خاص في لهجتنا بشق أتلام الذري دون غيرها بالمحراث الذي يجره الضمد، وتكون بين التلم والآخر مسافة تزيد عن الشبر بقليل تسمى (الجَنِيْد). ويساعد سلق الأتلام بهذه الطريقة على دخول المياه وانتشارها في كل أجزاء الطين، والسَّلَق في الفصيح هو المستوي الليِّن من الأَرض والفَلَقُ المطمئن بين الرَّبْوَتين. ومن أقوال المزارعين:
قال الحميد ابن منصور
يا ليتني وقت صيفي
بَتُول وا قع ثلاثه
سَالِقْ وذَارِيْ ودَكَّاك
واسْلُق سُلق مِثْل لَمْيَال
مِـثْـل السِّـهُـوم الْـقَـدِيِّــهْ
يعبّر الحميد هنا عن ما يفكر به كل مزارع في وقت الصيف حيث تكثر الأعمال، وخاصة في أيام البذار (الذَّري)،حيث يتمنى الفلاح أن يقوم بما يقوم به ثلاثة مزارعين في آن واحد. والسالق هو من يمسك بالمحراث ويشق الأتلام في الأرض، والسلق (فصيحة)وهو مسيل الماءَ بينَ الصَّمْدَيْنِ من الأرْضِ أو المُسْتَوِي المُطْمَئنُّ من الأرْضِ. والذاري من يقوم بنثر الذريء، وفي الفصيح: بذار الزَّرْعُ أَوّلُ ما تَزْرَعُه ويسمى الذَّرِيءَ وذَرَأْنا الارض بَذَرْناها وزَرْعٌ ذَرِيءٌ على فَعِيل والصحيح ثم ذَرَيْتَ غير مهموز. والدَّكاك من يقوم بردم التربة على البذور أو كسر الكتل الترابية الناشئة بعد الحرث وتسويتها بالأرض. وفي الفصيح: دَكَكْتُ الشيء أَدُكُّه دَكّاً إذا ضربته وكسرته حتى سوّيته بالأَرض ومنه قوله عز وجل: (فَدُكَّتا دَكَّةً واحدة).
وهكذا فالفلاح المنشغل بالأعمال الكثيرة وقت الصيف لا وقت لديه ليستظل ولو قليلاً، بل إنه لشدة انهماكه بالعمل لا يشعر بحرارة الشمس، وقد يكتفي بما تجود به السحابة العابرة من فيء قليل:
بالصَّيف ما ظَلِّنَيْ ظل
ولا لقيت الظلاله
إن كان دارت غمامه
دارت عليَّا ووَلَّهْ
ويوصي الحكيم الحُميد بن منصور بأن تكون البذور متباعدة عن الأخرى لتعطي محصولا وفيراً.
يا ذاري الحب رقه
على الخِطِيْ والبناني
أما الطريقة الثانية فتسمى (رَزْوَه- وجمعها رِزِي) وتتبع عادة في المدرجات والحقيف الزراعية الصغيرة في بطون الجبال التي لا يستطيع ضمد من الثيران العمل، وفيها يتم البذار بنثر حبوب البذار بطريقة يدوية في حفر تكون بخط مستقيم ثم يهال عليها بالتراب، وفي هذه الطريقة تنمو حبوب البذار متزاحمة بجانب بعضها البعض.
ورغم أن العمل في الأرض هو اختصاص الرجال، لكن جرت العادة أن تشارك المرأةُ الرَّجلَ في موسمين فقط: عند البذار وعند الحصاد، وكانت النساء يلبسن أفخر ما لديهن من الثياب ويتزين بالحلي ووسائل التجميل المحلية، وكأنهن في عرس كبير، وقد كان هذان الموسمان أكثر من عيد في حياة الأسرة اليافعية. ففي موسم البذار، كانت المرأة تسير وراء زوجها أو قريبها الذي يحفر (الزوّة) وتلقي فيها حبوب الذري ، وكان الاعتقاد أن الفتاة العذراء لا تباعد خطاها فتكون الرزي متقاربة مما يفسدها حين تنمو، على عكس المتباعدة التي تنمو قوية. وفي معنى ذلك يقولون في أهازيج البذار:
أُبُه العذراء
بالسِّلُق تذرأ
أمَّها تذرأ
تكبر الرزوه
الا خف واذاري
أَلا بعد حفاري
• ومن أغانيهم وأهازيجهم التي يرددونها للتخلص من الرتابة واضفاء الحماسة على نشاطهم، قولهم:
وا توكلنا.. وا على الرحمن
وبهُ آمن ، مؤمن الخايف
قال عبدالله ، الكِنِهْ بالله
عالنبي صَلَّيت
قط ما مَلَّيت
وا مصلي صل
صل لا تكسل
صل عالمرسل
لنبيك صل
***
ليت لي يا ليت
بالمدينه بيت
ظل به وأمسيت
عرض بيت الله
***
خِفّ وا ذاري
لا تجس (واري)
يضحكون الناس
رأس ما يحمى
بحسبه دبيه
من دباي الماء
***
وا هُمياني.. زرع رماني
قاربوا ثمُّوا.. تا عليا دَيْنْ
دَيْن من عاما.. والذي قبله
***
ألا وا صلاة الله.. زوروا أهل الله
زوروا الشيبه .. الشيبه محمد
ألا ليت لي يا ليت
بالجَلَبْ عَرْسَهْ
واسمها وَرْسَهْ
ما علي وأحمد
مثلهم ماحد
هم حماة الحد
وا مجلي الهم.. جل لي همي
همي المنضاق
صل وا عابد
صل عالساجد
ذي سجد لله
وامصلي صل
صل لا تكسل
صل عالمرسل
وبما أن أيام الذري معدودة فأن الأقوال فيها محدودة. ويحرص المزارعون على عدم التأخير، فخير البذار ما بكر صيفه. ويقولون (الصَّيف صَيْدِي والفتى من صَاده) ويضرب في اقتناص موسم الصيف لبذر الأرض في وقتها لتعطي محصولاً وافراً، وإذا تأخر الصيف خاطب الفلاح نجم الثرياء (يا غارتاه يا ثريا مواسم الصيف فاته، فاته وما بعد فاته)، أي أنه يتمنى أن تسعفه الثرياء كي لا يفوت موعد بذار الذرة. أما إذا فات موعدها فأن الناس يحرمون من محصولها ويتحسرون لذلك على لسان حكيمهم الحُميد:
قال الحميد ابن منصور
لا تبكي الأب لا مات
إبْكِ لا المِيِهْ والسماك فات
والمِية والسّماك موسم ذري الذرة (في كلد-يافع) ولو مر هذا الموسم بدون مطر يفوت موعد بذر الذرة.
ونختتم بهذا الهاجل الذي يشدو به المزارعون حينما يلقون حبوب البذار بالأرض وتردد صداه الأودية والمدرجات الزراعية، وهم يستبشرون خيراً في أن يمن الله عليهم بكرمه وجوده فهو الكريم الرزاق الذي لا يخلف وعده:
وا نذلح الحبَّات
لا جودك يالله
وانذلح الحبَّات
لا جود ربي
ألا لا جودك آ جيد
الآ يا كريماني
يا الله اكرمنا
يا كريم الجود
سَيْل لا سِيْعَهْ
زاعها زَوْعَهْ
زعزع القاعه
نذلح الحبَّات
لا جودك يا الله
نذلح الحبَّي
لا كِنِةْ ربِّي
ذي كنتنا به
لا وعد عبده
ما خلف وعده
يا كريم الجود
يا الله اكرمنا
سيل من عندك
يا كريم الجود
يا الله اكرمنا
وا عُقَبْ وا عَيْل
وا طيُور السَّيْل
سبِّحي لله
سَبَّحَهْ قاله
الملك لله
الملك لله
وختاماً .. كم نحن بحاجة لتوثيق موروثنا وتراثنا الشعبي قبل أن يندثر ويطويه النسيان، وعلينا التقاط ما تبقى منه من ألسنة كبار السن والمهتمين في عموم مناطق بلادنا، فتلك هي ذاكرتنا الجمعية وهويتنا التراثية.
****
الصور بعدستي..