14 أكتوبر مولود شرعي لثورات وانتفاضات الجنوب وليس لإنقلاب أو ثورة سبتمبر
كتب / نصر مبارك باغريب:
الأمين العام المساعد لنقابة الصحفيين والإعلاميين الجنوبيين
ثورة 14 أكتوبر 1963م، هي امتداد طبيعي لنضج ثوري مجتمعي شامل كلل مسيرة نضالات شعب الجنوب العربي منباب المندب شرقًا إلى المهرة غربًا، وثوراته وانتفاضاته المتتالية التي لم تستكين ولم تتوقف منذ أن وطأت سفن قوات الاحتلال البريطاني سواحل مدينة عدن في الـ19يناير1839م، وخروجها من السواحل ذاتها في 30 نوفمبر1967م.
ويكشف التاريخ بوضوح حقيقة ثورة أكتوبر التي استندتلإرث نضالي جماهيري واسع، وماضي كفاحي طويل ومرير أستمر لأكثر من 129 عامًا من الرفض للوجود الاستعماري البريطاني، أتسم بالانتفاضات والاحتجاجات والتضحيات الجسيمة في مواجهة الاحتلال.
فهذه الثورة الأكتوبرية الظافرة هي دون شك وليدة شرعية لمسيرة تلكم الثورات والانتفاضات والعنفوان الاجتماعي المتمرد لأبناء الجنوب ضد الاحتلال على امتداد الخارطة الجنوبية، وليس لها صلة حقيقية فارقة بانقلاب أو ثورة سبتمبر الصنعائية اليمنية.
ان انقلاب أو ثورة سبتمبر 1962م، ضد حكم الملك بدر أحمد يحي حميد الدين المتوكل ملك المملكة المتوكلية الهاشمية (المملكة المتوكلية اليمنية)، هو حدث إيجابي يحدث بدولة لها هويتها وكيانها السياسي والثقافي والاجتماعي الخاص بها، وهي دولة جارة للجنوب العربي، ولكنه حدث متصل بتاريخ المملكة المتوكلية وتطورات الاحداث السياسية فيها والصراع الإقليمي والدور المصري الأساسي لها، منذ تأسيس خلية الانقلاب/الثورة على حكم الأسرة الإمامية عندما اضطلعالمدربين العسكريين المصريين داخل الكلية الحربية بصنعاء على تشكيل هذه الخلية من الضباط اليمنيين المتخرجين من الكلية بقيادة علي عبدالمغني وزملاءه، وماجري عقب ذلك من تدفق مراكب القوات المصرية إلى ميناء الحديدة اليمني وإلى عاصمة الجهورية العربية اليمنية صنعاء لحماية السلطة الجديدة لانقلاب/ثورة سبتمبر من الانهيار (...).، غير ان تضحيات المصريين في اشعال ثورة فكرية مدنية وتغيير اجتماعي حضاري في الجمهورية التي سعوا لخلقها باليمن، ذهبت إدراج الرياح وفشلت منذ مفاعيلها الأولى على أرض الواقع عن تحقيق الأهداف التي أعلنها قائدها الفعلي الضابط علي عبدالمغني وزملاءه، وهي الأهداف المستنسخة من أهداف ثورة 23 يوليو1952م المصرية، كون العقلية اليمنية الجمعية تتناقض مع سمات الحضارة المدنية وطموحها.
ولا يمكننا أبدًا أن ننكر ان قيام الثورة الناصرية في مصر، كان لها الأثر الكبير في نجاح ثورة 14 أكتوبر الجنوبية واستمراريتها (1963م – 1967م)، بينما كان نصيب الثورات والانتفاضات السابقة التي اندلعت في مدن ومشيخات وسلطنات وإمارات الجنوب العربي المختلفة منذ بدايات الاحتلال وحتى زواله في الربع الأخير من ستينيات القرن العشرين الماضي، التعثر والتوقف.
قدمت الثورة الناصرية المصرية الدعم المالي والعسكري والسياسي لثورة 14 أكتوبر، وشرعت أبوابها خاصة أثناء حقبة الخمسينيات من القرن الماضي للسياسيين والثوار والمناضلين لعرض قضيتهم التحررية تجاه الاحتلالالبريطاني، وتدرب المئات من المناضلين الجنوبيين منذ نهاية الخمسينيات وحتى الستينيات من القرن العشرين في القاهرة والمدن المصرية الأخرى على الاعمال السياسية والعسكرية، ولم تتوقف المساندة المصرية عند ذلك، فقد فتحت القواتوالمخابرات المصرية في منطقة تعز بالدولة المجاورة، معسكرًاخاصًا بإدارة وإشراف مصري كامل لتدريب الثوار الجنوبيين، ومدهم بالسلاح، وجعله همزة وصل بين الثوار الجنوبيين وعاصمة القرار القاهرة، دون ان يكون للسلطة الجديدة في صنعاء دور يذكر خاصة وان المصريين هم من كان يدير الأمور الرئيسية أنداك، فالمصر دورًا كبيرًا في دعم ثورة 14 أكتوبرالجنوبية، إلا ان الدور الأكبر والأهم لثورة أكتوبر هو استنادها لإرث نضالي وتاريخي موغل في القدم ولحاضنة شعبية جارفة، هي من فجرت هذه الثورة الجنوبية الأخيرة، كما فجرتورعت قبلها الثورات والانتفاضات التي سبقتها وقدمت التضحيات والأثمان الباهظة من آجلها واستعار عنفوانها.
ان ادعاء بعض الكُتاب ان ثورة أو انقلاب 26 سبتمبر1962م هوأب ثورة 14 أكتوبر في الجنوب وإن سبتمبر الثورة الأصلوأكتوبر الفرع، يهدف إلى تكريس أكذوبة تخالف حقائقالتاريخ، تم ترديدها على مدى أكثر من خمسة عقود من الزمن،ومغالطة تتسق مع النهج السياسي المتوهم بيوتوبيا تطويع المفاهيم لخدمة الأيديولوجية الطوباوية القافزة على حقائق الواقع والهوية والتاريخ والجغرافية، وأدت إلى فرض اعتقاد أباح لهوية وكيان آخر من استباحة هوية وكيان مغاير له جراء اعتساف سياسي وتاريخي مأزوم.
كيف لثورة 14 أكتوبر التي تعد سليلة أصيلة لنضالات شعب الجنوب ولها بُعد زمني غائر في القدم ان تكون ابنة لثورة أو انقلاب سبتمبر بدأ قبل حوالي عام واحد فقط من الإعلان الرسمي لها (26 سبتمبر 1962م)، ان إعلان يوم 14 أكتوبر في 1963م كتاريخ إشهار سياسي رسمي للثورة لا يعني أبدًا ان ثورة الجنوب بدأت في هذا التوقيت الزمني، فتوثيق ثورة 14 أكتوبر بهذا اليوم هو تاريخ سياسي إشهاري لإعلان الثورةالجنوبية من جبال ردفان الشامخة، وليس تاريخ بدايتها الفعلية ونشاطها التحرري على الأرض، الذي يرجع لسنوات فارطة سبقت هذا الإعلان الذي صدح بتاريخه عبر الأثير صوتالإعلامي الشهير أحمد السعيد من راديو “صوت العرب“ في يوم 14 أكتوبر1963م، فكيف لثورة أو انقلاب مستجد ان يكون أب لثورة ونضال كان موجودًا بصيرورته وأقدم منه بكثير!.
ان الاحتفاء بمرور 60 عامًا على إعلان ثورة 14 أكتوبر في الجنوب يتطلب الوقوف لتصحيح الكثير من المعلومات والمفاهيم التي علقت بهذه الثورة الجنوبية الكبرى التي تعرضت للتشويه والسطو لحقائق نشأتها وممهداتها الأولى وانطلاقتها، التي هي نتاج طبيعي للثورات والانتفاضات والمسيرات والمظاهرات والتمردات المسلحة التي قامت ضدالاحتلال البريطاني، ولم يحدث البتة ان جاءت قوات أو جيوش من الجمهورية العربية اليمنية إلى أرض الجنوب لتشارك النضال مع ثورة 14 أكتوبر ضد الاحتلال البريطاني، ولم تطلق صنعاء طلقة واحدة في صدر أي جندي بريطاني محتل للجنوب العربي، فبأي حديث إفك يتكلم بعض الكُتاب المدلسين عن واحدية الثورة الأكتوبرية الجنوبية مع سبتمبر الصنعائية!.
واحدية ثورة 14 أكتوبر الحقيقية هي واحدية الارتباط الحقيقي بالنضال المستمر لكل أبناء الجنوب على أرضهم،كالمظاهرات والاحتجاجات والانتفاضات المتعاقبة، مثل ثورة بن عبدات في مدينة الغرفة بحضرموت التي شنت ضدها أولحملة بريطانية في عام ١٩٣٨م بقيادة المستشار البريطاني انجرامس، وما تلاها من حملات عسكرية بريطانية ومعارك دموية شرسة صاحبها قصف بالطيران، وفشلت تلك الحملات العسكرية ضد ثورة حضرموت في سنواتها الأولى، ولكن بعد انتصار دول الحلفاء بالحرب العالمية الثانية ١٩٤٥م نقلت بريطانيا قوات كبيرة من أوروبا إلى حضرموت للقضاء علىثورة بن عبدات فحاصرته في مدينة الغرفة بجيش عرمرم وعتاد ضخم من الدبابات والمدفعية الحديثة والضخمة التي انتجت بالحرب العالمية، فدكوا حصن المناخ والطنافرة وفي ٧مارس ١٩٤٥م سقطت مدينة الغرفة بحضرموت بيد قوات الاحتلال البريطاني، حتى تم إنهاء ثورة بن عبدات، كما نشبت تاليًا احتجاجات دموية في قصر المكلا، وثورة شهيد الطلاب بن هامل بمدينة المكلا، وفي شبوة اندلعت ثورة بالحارث في بيحان وانتفاضة ربيز والعوالق بشبوة.
وشهدت مدينة عدن تطورًا في شكل الاحتجاجات التي لم تتوقف ضد الاحتلال البريطاني منذ سنواته المبكرة، وقد تشكل في 1948م أول كيان سياسي مؤسسي منظم “رابطة أبناء الجنوب العربي”، الذي قاد العمل السياسي آنذاك ضد الاحتلال، وفي مارس 1956م شهدت عدن حوالي 30 إضراباً عمالياً، وفي يونيو من العام نفسه قام الثوار في بيحان محافظة شبوة بالهجوم على المركز الحكومي، وفي خريف عام 1956م أثارت الأحداث – التي شهدتها مصر، إثر العدوان الثلاثي على مصر من قبل إسرائيل وفرنسا وبريطانيا – غضب الشعب الجنوبي، فازدادت وتيرة العمل الوطني، ضد التواجد البريطاني في مستعمرة عدن والمحميات الشرقية (السلطنة الكثيرية والقعيطية والمهرية) والغربية، فقام الاحتلال على زيادة التوغل في عدد من المدن والمناطق الريفية.
وقد شهدت المحميات الغربية للجنوب العربي في فبراير 1957م أكثر من خمسين حادثة معظمها إطلاق نار على مراكز الاحتلال البريطانية في كلٍ من ردفان وحالمين والضالع، وفي 24 فبراير 1957م نصب (16) رجلاً من قبيلة الأزارق بالضالعكميناً لدورية عسكرية بريطانية تتكوّن من 22 فردا من أفراد قوات الكاميرون مايلاندر أسفر عن مقتل اثنين من الدورية وإصابة ستة بجروح، وفي أغسطس أو سبتمبر من العام نفسه بدأت انتفاضة قبيلة الشعار في إمارة الضالع، فتضامن معهم أبناء القبائل الأخرى، وعند مرور القوات العسكرية البريطانية الخارجة من عدن عبر لحج لقمع تلك الانتفاضة وزعت منشورات في لحج، تدعو أفراد جيش الليوي والحرس الحكومي إلى الثورة والهروب من الخدمة العسكرية مع بريطانيا، وتمّ رمي تلك القوات أثناء مرورها بلحج بالحجارة، كما انتفضت قبائل بيحان ودثينة وقامت القوات البريطانية باعتقال العديد منهم وصادرت الممتلكات.
وفي عام 1958م قاوم سلطان لحج علي عبد الكريم سياسة الاحتلال، فأرسلت بريطانيا في أبريل 1958م، 4000 جندي تدعمهم الأسلحة الثقيلة واحتلت السلطنة، تحت مبرر اكتشاف مخازن للأسلحة والذخائر. وفي 22 أبريل 1958م قامت قبائل الشاعري والدكام والحميدي والأحمدي والأزرقي والمحاربة وجحافه وبني سعيد وحالمين وردفان باحتلال مركز السرير في جبل جحاف بقصد السيطرة عليه، أما في يافع السفلى فقد نشب صراع بين السلطان محمد عيدروس والبريطانيين، فعملت بريطانيا على عزل السلطان محمد عيدروس الذي قاوم الإجراءات البريطانية، فاستمرت العمليات القتالية بين السلطان عيدروس وقوات الاحتلال البريطاني من فبراير 1958م إلى أبريل 1961م واستخدمت القيادة العسكرية البريطانية كل وسائل التدمير ضد قوات السلطان بما فيها الطيران الذي دمر تدميراً كاملاً معقل السلطان محمد عيدروس في قلعة (القارة) الحصينة في يافع.
وفي 19 يوليو 1958م اندلعت انتفاضة قبائل سيبان والمناهيل في حضرموت، كما قامت قبائل الربيزي في العوالق في مارس 1959م بإجبار القوات البريطانية على الانسحاب من المراكز العسكرية التي أقاموها في العوالق، فقامت القوات البريطانية بقصف مناطق تلك القبائل بواسطة الطيران ما أدى إلى استشهاد عدد من الثوار وأحرقت المزارع، وأبديت المواشي وتشردت الأسر ولجأ الثوار إلى الجبال لمواصلة المقاومة.
وشهدت الفترة من 1956م – 1958م انتفاضة (ثورة) في المحميات الغربية والشرقية اطرادًا في الكم والكيف نتيجة للمد الثوري العربي الذي خلفته الثورة العربية في مصرَ منذ قيامها في عام 1952م، وتنامي الوعي الوطني بأهمية النضال ضد المستعمر، واستفادت المقاومة الشعبية من الدعم المصري؛ وفي 19 أغسطس 1963 تم إعلان تأسيس «الجبهة القومية لتحرير الجنوب المحتل». وتم تشكيل قيادة الجبهة من 12 شخصاً.
وتكونت الجبهة القومية من خلال اندماج سبع تنظيمات سرية أعلنت إيمانها بالكفاح المسلح، وهي: حركة القوميين العرب، الجبهة الناصرية في الجنوب المحتل، المنظمة الثورية لجنوب اليمن المحتل، الجبهة الوطنية، التشكيل السري للضباط والجنود والأحرار، وجبهة الإصلاح اليافعية (تشكيل القبائل)، ثم التحقت ثلاث تنظيمات أخرى بالجبهة القومية، وهي: منظمة الطلائع الثورية بعدن، منظمة شباب المهرة، والمنظمة الثورية لشباب الجنوب المحتل.
وأعلن إشهار ثورة 14 أكتوبر في 1963م ضد الاستعمار البريطاني من راديو صوت العرب، وذلك من جبال ردفان، بقيادة راجح غالب لبوزة، وشنّت السلطات الاستعمارية البريطانية حملات عسكرية غاشمة استمرت ستة أشهر، ضربت خلالها القرى والسكان الآمنين بمختلف أنواع الأسلحة، تشرد على إثرها آلاف المدنيين العزل. واتّبعت القوات البريطانية في هجماتها وغاراتها على مناطق ردفان سياسة “الأرض المحروقة“، وخلفت كارثة إنسانية فظيعة جعلت أحد أعضاء مجلس العموم البريطاني يدين تلك الأعمال اللاإنسانية.
وفي مدينة عدن نفذ الفدائي العدني المناضل خليفة عبد الله حسن خليفة في 10 ديسمبر 1963م، عملية فدائية بتفجير قنبلة في مطار عدن في إطار الكفاح ضد الاحتلال البريطاني، وأسفرت عن إصابة المندوب السامي البريطاني (تريفاسكس) بجروح ومصرع نائبه القائد جورج هندرسن، كما أصيب أيضاً بإصابات مختلفة 35 من المسؤولين البريطانيين.
في 11 ديسمبر 1963م صدر قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة، قضى بحل مشكلة الجنوب المحتل وحقه في تقرير مصيره والتحرر من الحكم الاستعماري البريطاني. وفي عام 1965م اعترفت الأمم المتحدة بشرعية كفاح شعب الجنوب طبقاً لميثاق الأمم المتحدة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
وفي 7 فبراير 1964م نشبت أول معركة للثوار استخدموا فيها المدفع الرشاش في قصف مقر الضابط البريطاني في ردفان (لحج)، وفي 3 أبريل 1964م شنت ثماني طائرات حربية بريطانية هجوماً في محاولة للضغط لإيقاف الهجمات الفدائية المسلحة التي يشنها فدائيو الجبهة القومية، وفي 28 أبريل 1964م شن مجموعة من فدائيي حرب التحرير هجوماً على القاعدة البريطانية في الحبيلين (ردفان)، وقامت طائرات بريطانية في 14 مايو 1964م بغارات ضد الثوار في قرى وسهول ردفان، أدت إلى تدمير المنازل في المنطقة، كما أسقطت منشورات تحذيرية للثوار الذين أسمتهم بـ«الذئاب الحمر»، وفي 22 مايو 1964م، أصاب ثوار الجبهة القومية في ردفان طائرتين بريطانيتين من نوع “هنتر“ النفاثة.
وانطلق الكفاح المسلح ضد المستعمر البريطاني وأعوانه في إمارة الضالع بتاريخ 24 يوليو 1964م بقيادة علي احمد ناصر عنتر، عقب عودة عدد من الشباب الذين خضعوا فيها لدورة تدريبية عسكرية دامت شهرين على يد الضباط المصريين بمعسكر المصريين في تعز.
في عام 1965م اشتدت العمليات الفدائية على قوات الاستعمار وأصدرت قانون الطوارئ في 19 يونيو 1965م، وحظرت بموجبه نشاط الجبهة القومية لتحرير الجنوب المحتل، واعتبرتها حركة إرهابية، وقامت بإبعاد 245 مواطناً.
اعلنت بريطانيا في 2 أكتوبر 1965م عن عزمها البقاء في عدن حتى عام 1968م مما أدى لانتفاضة شعبية عنيفة ضد البريطانيين في المدينة أسفرت عن خسائر كبيرة بشرية ومادية، وأصدرت الخارجية البريطانية «الكتاب الأبيض» في 22 فبراير 1966م الذي أعلن رسمياً قرار بريطانيا القاضي بمنح مستعمرة عدن والمحميات الاستقلال مطلع 1968م.
في 28 يوليو 1966م نفذ فدائيون في حضرموت عملية قتل الكولونيل البريطاني جراي، قائد جيش البادية. وكان هذا الضابط هو الذي نفذ عملية اغتيال المناضلة الفلسطينية رجاء أبو عماشة عند محاولتها رفع العلم الفلسطيني مكان العلم البريطاني أثناء فترة الانتداب البريطاني لفلسطين.
وقد أعلنت الحكومة البريطانية في أغسطس 1966م اعترافها بقرارات منظمة الأمم المتحدة لعامي 1963م و1965م الذي أكدت فيه حق شعب الجنوب المحتل في تقرير مصيره.
وأصدرت الجامعة العربية في 8 مارس 1967م قراراً تشجب فيه التواجد البريطاني في الجنوب العربي، وفي 2 أبريل 1967محدث إضراب عام شل كافة أجهزة العمل في مدينة عدن، دعت إليه الجبهة القومية وجبهة التحرير في وقت واحد.
وفي 3 أبريل 1967م، نفذ فدائيو حرب التحرير عدة عمليات عسكرية ناجحة ضد مواقع وتجمعات المستعمر البريطاني في مدينة الشيخ عثمان بعدن، كبدوا خلالها القوات الاستعمارية خسائر فادحة في الأرواح والعتاد، وسقط خلالها عدد من الشهداء في صفوف الفدائيين، وفي 20 يونيو 1967م، تمكِن الفدائيون من السيطرة على مدينة كريتر بعدن لمدة أسبوعين.
وفي 17 سبتمبر 1967م، تمكن ثوار الجبهة القومية ومعهم المقاومة الشعبية من السيطرة على مدينة المكلا وبقية مدن حضرموت، وقام المناضل خالد عبدالعزيز برفع علم الجبهة القومية فوق قصر السلطان القعيطي بالمكلا، وتم حشد القوات على طول ساحل المكلا وإجبار سفينة السلطان على العودة من حيث أتت، وتم إعلان الجبهة القومية سيطرتها على السلطة وتولي الحكم في حضرموت.
قام الحكام الجدد من ثوار حضرموت بعد 17 سبتمبر 1967م، بفتح خزائن المال والسلاح والذخيرة التابعة لدولة السلطنة القعيطية بحضرموت، لثوار الجبهة القومية في عدن وبقية مناطق الجنوب، وهو ما مكن الثوار بعدن والمناطق الجنوبية الأخرى من إعطاء دفعة قوية ومهمة لمواصلة الثورة والحصول على دعم مادي ولوجستي مهم جدًا بعد ان أوقفت القاهرة دعمها للجبهة القومية، وقد تأسست إذاعة المكلا في 28 سبتمبر 1967 التي انطلقت باسم «صوت الجبهة القومية لتحرير الجنوب المحتل». وفي 5 نوفمبر 1967م أعلنت قيادة الجيش الاتحادي في الجنوب العربي وقوفها إلى جانب الثورة ودعمها للجبهة القومية، بعد أن باتت غالبية المناطق تحت سيطرتها.
وأعلن وزير الخارجية البريطاني (جورج براون) في 14 نوفمبر 1967م أن بريطانيا على استعداد تام لمنح الاستقلال الجنوب العربي، وفي 30 نوفمبر 1967م، وليس في 9 يناير 1968م، كما كان مخططاً له سابقاً، وبدأ انسحاب القوات البريطانية من عدن في 26 نوفمبر 1967م، وغادر الحاكم البريطاني هامفري تريفليان، وفي 30 نوفمبر 1967م، تم جلاء آخر جندي بريطاني عن مدينة عدن، وإعلان الاستقلال الوطني وقيام جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية، بعد احتلال بريطاني دام 129 عاماً، وأصبحت الجبهة القومية إبان حرب التحرير تتولى مسؤولية الحكم، وتولى أمين عام الجبهة قحطان محمد الشعبي رئاسة الجمهورية وشكلت أول حكومة برئاسة قحطان الشعبي.
ويوضح نص خطاب استقلال الجنوب الذي ألقاه السيد/شيخان الحبشي “أمين عام رابطة الجنوب العربي” في أبريل عام ١٩٦٣م أمام لجنة تصفية الاستعمار في هيئة الأمم المتحدة، هوية النضال الجنوبي المستقل: ويؤكد للأستاذ / شيخان الحبشي أمين عام الرابطة بعد صعوده إلى المنصة في بداية كلمته وبعد موافقة رئيس الجلسة آنذاك له بالحديث والذي وصفه بأنه احد المندوبين الوطنيين وهو سكرتير رابطة ابناء الجنوب العربي واْنا بدوري اْدعوه ليقف على منصة اللجنة – وفي مفتتح كلمته على هوية الجنوب قائلا : “يجب عليّ قبل كل شيء اْن اعلن شكر واْمتنان شعب الجنوب العربي نحو الاْمم المتحدة كمنظمة دولية وكأعضاء في هذه المنظمة فقد استطاعت المنظمة اْن تحقق استقلال كثير من الاْمم الاْفريقية والأسيوية واستطاعت اْيضا اْن تكفل الى حد كبير السلام والأمن للعالم بيد اْن ما يستحق الشكر والاْمتنان بوجه خاص هو اْن قد اْصدرت قرارها الدولي الخاص بإلغاء الاستعمار ومنح الاستقلال لكل الشعوب والاقطار المستعمرة وبوجه اْخص اْنشاء الجمعية العامة هذه اللجنة كتنفيذ نص ومعنى بنود القرار كيما تستطيع جميع الشعوب والمناطق المحتلة اْن تحصل على اْستقلالها”..
وقال شيخان: “لقد حضرت الى الاْمم المتحدة في عام 1959م ظانا اْني سأطرق اْبوابها اساْلها اْن تمنحنا الاْستقلال.. وكان الاعتقاد آنذاك اْن الاْمم المتحدة تستطيع اْن تفعل شيئا ،غير اْنها لم تكن قدْ اصدرت قرار منح الاستقلال وكذا فقد علمت من الجميع وكنت اْعتقد اْنني لن اْحصل واْتمتع بحق الاستماع في المنظمة مالم اْهدد السلم العالمي، واْريق الدماء وارتكب التخريب والقتل وكثيرا من اْعمال العنف عندئذ فقط اْستطيع لفت نظر الاْمم المتحدة والاْن وقد صدر القرار المشار اليه اْنفا نستطيع معشر اْبناء الجنوب العربي اْن نتمتع بحق الاستماع والكلام والفضل يرجع الى الاْمم المتحدة، ورغم ذلك فاْن كثيرا من ذوي النوايا الطيبة في العالم مازالوا يعتقدون اْن الاْمم المتحدة لا تلتفت الا الى اْراقة الدماء والقتل والمذابح والتخريب واْعمال العنف لاْن الاْمم المتحدة عودتهم على مثل هذا الاْعتقاد ،واْنا اْعتقد اْن الاْمم المتحدة يجب اْن تزيل هذه الفكرة بأعمالها وتصرفاتها في السنيين القادمة، ولاسيما اْزاء الجنوب العربي”.
وأكد بقوله: “ان الجنوب العربي جزء من العالم العربي ومن السهل جدا اْن يفعل اْهله مثلما فعل الجزائريون والقبارصة فيريقوا الدماء ويزهقوا الاْرواح فيحصلوا على اْحترام الاْمم المتحدة لرغباتهم واْهدافهم ..لقد اْتيت إلى الاْمم المتحدة بتوجيه من اْبناء الجنوب العربي وكلي ثقة واْيمان باْن الاْمم المتحدة ستقوم بتنفيذ قرارها العالمي دون حاجة الى ما لا يلزم من اْراقة الدماء وارتكاب اْعمال العنف ..اْنني اْرى اْن اْمام الاْمم المتحدة فرصة طيبة لتثبت اْنها قادرة على تنفيذ قرارها واْنها حريصة على الضعفاء والمستعمرين وحقن دمائهم حرصها على حياة الاْمم القوية .. وارجو اْلا يؤدي حضوري الى الاْمم المتحدة ولجوئي اليها الى الاْستهانة بتصميم شعبي الاْكيد على مواصلة كفاحه لنيل حقه اْلا وهو الحرية، فعلى الاْمم المتحدة اْن تلتزم بقراراتها فهي منظمة أْمم متحدة، لا اْمم متنافرة تنصر الحق والعدل.. وإذا تحقق العدل في كل مكان انتصر السلام والاْمن “..
وأضاف: “ان قضية الجنوب العربي واضحة وبسيطة وسهلة الفهم إذا تحاشينا التعقيدات الكامنة خلفها، انها قضية شعب مستعمر اْعني شعب الجنوب العربي يعيش في ظل الحكم البريطاني وتحت سيطرته، ليس له تمثيل لدى اْي تنظيم اْو هيئة عالمية ولا يتمتع بعضوية المجتمعات الحرة، هذه هي قضية الجنوب العربي اْنه قطر مستعبد وعلى الاْمم المتحدة اْن تجعله قطرا حرا”.
ان الجنوب العربي وحدة سياسية لا تتجزأ رغم انه داخليا مقسم الى هذا العدد الكبير من الولايات كل واحدة منها مستقلة تماما عن الاْخرى الا اْنها تخضع جميعها لعدن..،وعدن مستعمرة هذا هو الحال في الجنوب العربي وأي حال؟ وطالما اْن حقيقة الاْوضاع هناك لازالت خافية على هذه المنظمة فاْن من واجبي اْن اكشفها واْبينها، لا رغبة في التشهير والفضيحة ولكن لإحقاق الحق وكشف القناع عن الواقع المرير الذي يعيشه ذلك الصقع التعس.
وأشار شيخان في كلمته: “ان بلدي كما ذكرت يتكون من مستعمرة عدن – وهي مجرد مدينة – وعدد من السلطنات والامارات والمشيخات لا يعلم عددها اْحد لأنها تتكاثر من وقت لأخر، كل هذه المنطقة وهي وحدة في نظر العالم الخارجي تقع على الساحل الجنوبي الغربي من بلاد العرب اْما عدن فتبلغ مساحتها 75ميلا مربعا فقط بينما تبلغ مساحة عدن والمحميات حوالي 112الف ميل مربع ..وكانت قد قسمت منذ عهد طويل الى سلطنات واْمارات متعددة كل واحدة تتبع شيخا ..ثم جاءت قوات المملكة المتحدة في عام 1839م الى عدن واْحتلتها بالقوة الحربية واْختطفتها من سلطنة لحج..، ومنذ ذلك العام استطاعت سلطات المملكة المتحدة في عدن اْن تخضع جميع شيوخ المنطقة وتربطهم بالسلطات البريطانية في عدن ولندن، وهكذا تدرج الشيوخ حتى اْصبحوا رؤساء ولاياتهم اْمام مواطنيهم اْما بالنسبة للمملكة المتحدة فليسوا سوى عبيد لاحول لهم ولا قوه لا يملكون حق التصرف بدافع من رغباتهم واْهدافهم ويتحتم عليهم طاعة وتنفيذ اْوامر ونصائح سلطات المملكة المتحدة في عدن، وقد اْرتبطوا بما يسمى معاهدات الحماية ومعاهدات الاْستشارة.. انهم بمقتضى معاهدات الاْستشارة محرومون من اقامة علاقات اْو الاتصال اْو التفاوض مع اْي جهة في الداخل والخارج الا بعد موافقة الحكومة البريطانية بعدن ولا يستطيع اْي منهم التفاوض مع شيخ اْخر ولو كان جارا له دون موافقة الحكومة البريطانية في عدن، وبمقتضى هذه المعاهدات قسمت المنطقة الى وحدات سياسية متعددة وزاد استعبادها وتقييدها اْزاء العالم الخارجي وقد كان واضحا للجميع اْن بريطانيا كانت -ولعلها لازالت- تطبق سياسة (فرق تسد). “تلك كانت حالة الجنوب العربي صحيح اْن عدن ربما تكون ذات اْهمية بالنسبة للملاحة التجارية ولكن هذا لا يحتم بقاءها تحت الاْحتلال العسكري البريطاني“.
ان إعادة كتابة تاريخنا بمصداقية هي مهمة لا مناص منها ليعرف هذا الجيل والأجيال القادمة الحقيقة التي لا يشوبها التزييف الذي يسعى جاهدًا إلى طمس هويتنا الوطنيةوالوعي بها، ويأتي قول المناضل شيخان الحبشي في كلمته (أعلاه) عن حضوره للأمم المتحدة في العام 1959م، هو تأكيد إضافي للمستوى العالمي المبكر الذي بلغته قضية استقلال الجنوب، وهذا القول يضاف إلى كل الوقائع التاريخية الدامغة عن تاريخ الجنوب العربي التحرري والثوري، فقضيةالثورة الجنوبية ضد الاحتلال البريطاني لم تكن وليدة انقلاب/ثورة سبتمبر في العربية اليمنية، إنما هي ثمرة من ثمار نضال طويل وشاق، ورحلة كفاحية لم تخبو فيها شعلةالثورة التي سطرت حروفها بالدماء والمعاناة، وثورة 14 أكتوبر هي العنوان الرئيسي لكل هذه النضالات والتضحيات لأبناءالجنوب التي نجحت بتحقيق الاستقلال الوطني الناجز لشعب الجنوب الذي يتوق حاليًا لاستعادة دولته الجنوبية المغدورة وحريته وسيادته الوطنية، والإسهام مع المجتمع الدولي ببناء الحضارة المدنية المأمولة.