المقالات

كانت قديماً ديارا

في مستهل الستينات كان “صوت العرب من القاهرة” يتفوق على أصوات العواصف. حينها كان الناس يبحثون عن عتبة للدخول إلى الحلم العربي. لكن تبدد كل شيء في ستة أيام (شيشيت هياميم). بردَ بعدها صوت المذياع وتجمدت الاناشيد في الحناجر وتراجع المبدعون إلى حزنهم، حتى أن سميح القاسم أصبح يرسم قوس قزح بشظية. وحين رصد النقّاد بأن “خلي بالك من زوزو” اكتسح بفارق فلكي فيلم “أغنية على الممر” أدركوا الحقيقة الجديدة وهي: أن الناس قد غسلوا أدمغتهم و طوى النسيان ذلك الحلم.

 

عقد بعد عقد ظل الشرق يتنقل بين الأزمات حتى انقض “الربيع العربي” كالوحش الجائع يثأر من انظمة الحكم من سافلها الى عاليها.

 

هناك في تاريخنا ما يمكن اعتباره لعنة البسوس و عقدة الزير (المهلهل). الفتنة و”الثأر الأبدي” و النهايات التراجيدية. متلازمات عبر القرون بأنماط وقوالب مختلفة: مرحلة تثأر من مرحلة وحاكم يثار من حاكم وايديولوجيات تثأر من سابقاتها و نهايات مأساوية تتكرر. وكأن الحاضر حفيد نجمي للسوبر نوفا الجاهلي.

 

استمرت حروب الربيع لأكثر من عقد وما تزال تنتج حروباً فرعية  وكان “التغيير” عنواناً مركزياً لحراك الناس قبل اختطاف انفعالاتهم من قبل “تنظيمات” تهدف لاستبدال الدولة الوطنية الدكتاتورية بدولة دينية عابرة للحدود ووجدت في بؤس الشارع ضالتها لتردد “ابيات الفناء”، ولكن بطريقة لا تشبه الأبيات الأورجينال التي قالتها البسوس قبل ١٥٠٠ سنة.

 

مات المهلهل (الجديد) مشرداً بائساً بعد دمار بلاده دون ان ترافقه مواويل التتر الشامية الحزينة، ومات الحارث ابن عباد تحت التعذيب في السجون، بينما تكسبت البسوس بنت منقذ من “دماء الربيع” كثيراً واختارت أن تعيش حياة الأثرياء تحت ظلال القومية الطورانية في أناتوليا على سفوح التلال السبع.

 

الآن، عزيزي القارئ، تبدل الشرق العربي وانقسم إلى كتل مدمَّرة وأخرى مستثمرة. وتشرد الملايين ليرمموا التآكل الديموغرافي في دول الغرب، بينما صار “الحلم” غريباً يتسكع في شوارع المدن الغنية!

 

انتقلت “الريادة” إلى قلب جزيرة العرب. إلى دولة كانت تعتبر العمود المائل للبيت العربي نتيجة لأدوارها الضبابية، وأصبحت تتحرك بسرعة مثيرة، محسوبة بالأيام وليس بالسنين. بالرغم أن محيطها العربي الواسع فقير ومضطرب وغاضب.

و بقرار أسرع من ضربة فرشاة في لوحة سريالية يمكنها استبدال أي شيء وكل شيء. تغييرات عميقة ومتسارعة قد تطلق عاصفة مغناطيسية تعطل أنظمة المخزون التاريخي في اللاوعي وتدرب أدوات الإدراك على قبول مفارقات هائلة في الواقع.

من هنا يعاد تأهيل ١٠٠ عام من الانكماش الحضاري عن طريق بيج بانج الرؤية التي تمضي نحو مستقبل يأخذ فيه الميتافيرس مكان الميتافيزيقا، والانتقال إلى “استهلاك” الذكاء الاصطناعي ليؤسس قواعد جديدة للحياة. وقد تعاصر يوماً ما، عزيزي القارئ، روبوتات و افاتارات رقمية ناضجة، بشكلها البشري الخارق وبالغترة والشماغ، تقوم بالخدمات في المدن الذكية وربما تساعد الزوار في المواسم إن تطلب الأمر بحيث تحتوي وحدات التخزين فيها على ملفات رقمية عن تاريخ طويل منذ “غرابا عك” حتى أفواج “القناديل” اليمانية.

 

أمر كهذا لا يحتاج إلى خوارزميات لنمذجة البيانات حول النهايات الغائمة لما بعد الرؤية الأولى أو الثانية مثلاً. بل يحتاج إلى مساءلة فلسفية ومقاربة رديفة لإمكانية “التكيف الذكي” والانتقال والحداثة وتجدد الهويات الثقافية مع الإبقاء على نظام الحكم. وكذلك تبديد الحيرة التاريخية بشأن البدوي الذي يحمي الخيمة ويضيع الصحراء.

 

ماذا سيفعل إذن الفنان الكبير محمد صبحي وهو يتنقل في مسرحيته الأخيرة (عيلة اتعمل لها بلوك) بين المراحل حين يجري التحول عن طريق القفز خارج منطق الزمن المحسوس؟

لاشيء بالطبع سوى أن يغيّر محفزات الدهشة عند الجمهور، لأن الأمس (حرفياً) سيصبح قديماً جداً وكأن دياره كانت ديارا، ليس على هوى الشاعر جورج جرداق وإنما على ايقاع الخرائط التي يعاد تقسيمها وفقاً لدرجات الصدمة عند المجتمعات.

احمد عبد اللاه

٩ يوليو ٢٠٢٣

 

المصدر

جوجل نيوز

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى