اخبار محليةصحيفة المرصد

الريادة الصحفية والأدبية في حضرموت (الملخص)


أ.د. مسعود عمشوش

حضرموت أرضُ علمٍ وعلماء. والحضارم، قبل أن يهتموا بخزائن المال أهتموا أولا بخزائن الكتب، فملأوها بالمخطوطات، ليس في الفقه واللغة فقط، بل كذلك في العلوم والطب والأدب. وقبل أن يمارس الحضارم التجارة مارسوا التأليف والكتابة، في أرضهم وفي المهاجر الكثيرة التي استقروا بها؛ فكتبوا الشعر والمقامات والتراجم والسيرة الذاتية وأدب الرحلات، وأنشأوا عشرات الصحف المطبوعة والمخطوطة.

ومنذ نهاية القرن التاسع عشر تمكن عددٌ من الحضارم، لاسيما من بين الذين اختاروا الاستقرار في الأرخبيل الهندي، من الجمع بين قراءة كتب التراث العربي والإسلامي والاطلاع على بعض إرهاصات الحداثة العربية التي تحتويها الصحف والمجلات والكتب التي تصلهم من مصر والشام. وتفاعل هؤلاء الأدباء بشكل إيجابي مع تلك الإرهاصات وسعوا، كغيرهم من الأدباء العرب، للخروج من أسر القوالب الأدبية التقليدية وتجريب بعض الأجناس الصحفية والأدبية الحديثة.

الريادة الصحفية في حضرموت:

بدأ الحضارم يهتمون بالصحف والمجلات منذ نهاية القرن التاسع عشر؛ إذ أنهم كانوا حينئذٍ على اطلاع بحركة الصحافة العربية في مهجرهم الشرقي وفي حضرموت؛ وذكر المستعرب الهولندي فان در بيرخ أنّ عدداً من الحضارم في جاوة كانت لديهم مكتبات خاصة تحتوي على أعداد من بعض الصحف والمجلات المصرية. وبدأ الحضارم يمارسون الصحافة في حضرموت نفسها مع عودة بعض المهاجرين مثل محمد بن هاشم. ففي سنة 1913 ظهرت أول صحيفة خطية في حضرموت: (السيل)، التي حررها محمد عقيل بن يحيى الذي وصل إلى الوادي سنة 1912. وفي سنة 1917 أصدر شيخ بن عبد الرحمن بن هاشم صحيفة (حضرموت) الخطية، في مدينة تريم.

وفي سنة 1929 في مدينة سيئون، اضطر الشاب علي أحمد باكثير، الذي تم إبعاده من إدارة مدرسة النهضة بسبب آرائه التنويرية، أن يلجأ إلى وسيلة حديثة للدفاع عن دعوته للنهوض وآرائه الرافضة للجمود: الصحافة. أصدر صحيفة (التهذيب) الخطية بمساعدة قريبه محمد بن حسن بارجاء. وهي صحيفة دينية علمية أخلاقية شهرية أنشئت لتهذيب العقول وتنوير الأفكار ومحاربة الجمود والتخلف في المجتمع، وتنسخ بخط اليد.

ويمكن أن نشير هنا أن رد فعل المعارضين للأفكار التي ضمنها باكثير مقالاته في (التهذيب) كان سريعا وعنيفا، وقد استعانوا في ذلك بمختلف الجهات المتنفذة في سيؤن. مثلا، حينما نشر باكثير افتتاحية العدد السادس (التذكير)، اضطر محمد حسن بارجاء المشرف على الصحيفة، إلى نشر مقالة توضيحية بعنوان (حول مقال التذكير، في العدد السابع من الصحيفة) كتب فيه “لقد أثار المقال حفائظ كثير من طلبة العلم هنا، وشنعوا بكاتبه، وأنكروا علينا نشره في التهذيب، وقالوا إن هذا اعتراض على طريقة السلف الحضرميين من الأولياء والصالحين”. وينتهي هذا التوضيح بدعوة صاحب (التذكير) “إلى الكتابة في غير هذا الموضوع الذي يؤلمهم كثيرا”. ويقول بارجاء: “فإذا كان المتنورون من الطلبة قد أنكروا هذا الإنكار فما ظنه بسواهم من الطلبة الجامدين؟ ومتى عاود حضرة الكاتب الموضوع ثانيا فإننا سوف لا ننشر مقاله في هذا الوقت الذي نرى البلاد فيه غير متأهلة بعد لأمثال هذا المقال”.

ويبدو أن باكثير قرر يومئذ مغادرة حضرموت؛ ففي نهاية شهر (جماد الثاني 1350) صدر العدد الأخير من (التهذيب) الذي أعلن فيه محمد بارجاء توقفها عن الظهور. وبعد عيد الأضحى من العام نفسه كان باكثير في طريقه في رحلة دراسة وعطاء واغتراب، أبعدته عن حضرموت لأكثر من ستة وأربعين عاما.

وحينما أسست جمعية الأخوة والمعاونة في تريم مجلة (الإخاء) في شهر مارس من سنة 1938، عيّنت محمد بن حسن الكاف مديرا لها. وتولى تحريرها عددٌ من أعضاء الجمعية، وفي مقدمتهم محمد بن هاشم ومحمد أحمد الشاطري ومحمد السري. وقد تضمنت (الإخاء) كثيرا من الكتابات الاجتماعية والأدبية والنقدية، وكذلك بعض الترجمات عن اللغة الإنجليزية قام بها محمد بن هاشم. وبعد أن مرت المجلة بفترة انقطاع قصيرة توقفت نهائيا بعد عدد شهر يوليو من عام 1940.

وقد استفاد المستشار البريطاني هارولد انجرامس كثيرا من محرر المجلة محمد بن هاشم، الذي – بفضل إتقانه للغة الإنجليزية، قام بترجمة للمحاضرة الطويلة التي ألقاها انجرامس عن (الأمان في حضرموت) باللغة الإنجليزية ونشر تلك الترجمة في أربعة من أعداد مجلة (الإخاء).

ريادة الحضارم للرواية:

منذ نهاية القرن التاسع عشر تمكن عددٌ من الحضارم، لاسيما من بين الذين اختاروا الاستقرار في الأرخبيل الهندي، من الجمع بين قراءة كتب التراث العربي والإسلامي والاطلاع على بعض إرهاصات الحداثة العربية التي تحتويها الصحف والمجلات والكتب التي تصلهم من مصر والشام. وتفاعل هؤلاء الأدباء بشكل إيجابي مع تلك الإرهاصات وسعوا، كغيرهم من الأدباء العرب، للخروج من أسر القوالب الأدبية التقليدية وتجريب بعض الأجناس الأدبية الحديثة مثل الرواية والمسرحية والشعر الحر.

ففي سنة 1928 وسنة 1929 أصدر الروائي الرائد أحمد عبد الله السقاف، الذي ولد سنة 1880 في مدينة الشحر، روايتين عربيتين رائدتين: (فتاة قاروت)، و(الصبر والثبات). في (فتاة قاروت)، التي يعرفها المؤلف في الغلاف بأنها “رواية غرامية انتقادية تتضمن انتقاد بعض عادات المهاجرين الحضارم في الأرخبيل الهندي”، يقدم الأديب أحمد السقاف في أسلوب شيّق جملة من أفكاره وآرائه المرتبطة بعادات المهاجرين الحضارم وسلوكهم في الأرخبيل الهندي. وسعى كذلك إلى توظيف شخصيات روايته في سبيل عرض موقفه الرافض لاندماج المولدين الحضارم في المجتمع المحلي في جاوه.

وفي سنة 1911 ولد بمدينة تريم محمد بن سالم السري ودرس في مدرسة (جمعية الحق) ثم في رباط تريم. واهتم بقراءة الكتب والصحف والمجلات المتنوعة التي كانت حينذاك تصل إلى مدينة تريم بصعوبة. فتنوعت مصادر ثقافته وتوسعت مداركه. وعندما أصدرت الجمعية في سنة 1938، مجلتها الشهرية (الإخاء) أصبح محمد السري ضمن كتابها المنتظمين ونشر فيها عدة مقالات. وتضمنت مجلة (الإخاء) التي، سبق أن قدمناها، كثيرا من الكتابات الاجتماعية والأدبية والنقدية، وبدءاً من العدد الأول اتبعت المجلة تقليدا عرفته المجلات العربية منذ الربع الأخير من القرن التاسع عشر: نشر رواية مسلسلة في حلقات. وقد حملت الرواية، عنوان (الغناء، رواية أخلاقية غرامية تحكي صورة للعادات والتقاليد الحضرمية بتريم). وفضّل مؤلفها محمد السري عدم توقيعها باسمه.

تتضمن رواية (الغناء) حبكة قصصية ترتكز على علاقة غرامية هادئة بين عبد الله بطل الرواية، وبنت خاله زينب، وذلك في مدينة تريم التي تُسمّى أيضا: الغناء. وتهدف أحداث هذه القصة الغرامية إلى تشويق القارئ وتحفيزه على متابعة المجلة. ومن الواضح أن الراوي في (الغناء) يتَّبِع الطرق التقليدية في سرد الأحداث، وهي الطرق نفسها التي نعثر عليها في الروايات العربية المنتشرة في تلك الفترة، وبشكل خاص رواية (زينب) لمحمد حسين هيكل، وجميع روايات جرجي زيدان التاريخية.

ولا شك أن محمد السري قد قرأ رواية (زينب) لمحمد حسين هيكل وأعجب بها كثيراً؛ فهناك عدد من السمات المشتركة بين الروايتين. فاسم حبيبة بطل (الغناء) تحمل اسم حبيب البطل في رواية (زينب)، واسم صديقه إبراهيم كذلك، وأهم من ذلك الاستخدام الواسع لتقنية الوصف في الروايتين، لا سيما وصف الطبيعة. فمثلما يتوسع راوي (زينب) في وصف مناظر الطبيعة في الريف المصري يكرس الراوي في (الغناء) صفحات كثيرة لمناظر الطبيعة في مدينة تريم وضواحيها. ففي الحلقتين الأولى والثانية لا نجد غير الوصف.

ريادة الحضارم في شعر التفعيلة:

منذ نهاية القرن التاسع عشر انفتح عدد من الشعراء الحضارم، في حضرموت نفسها وفي المهجر الشرقي، على تجارب زملائهم الشعراء العرب في مصر وبلاد الشام. ومنذ تلك الفترة ألف أبو بكر بن شهاب وعبد الرحمن بن عبيد الله السقاف قصائد تدخل في إطار تيار الشعر الإحيائي (الاتباعي) العربي، ولا تقل جودةً عن قصائد محمود سامي البارودي وأحمد شوقي. وفي ثلاثينيات القرن الماضي شارك الشاعر صالح بن علي الحامد وحسن بن عبيد الله السقاف في ازدهار الشعر الرومانسي في الأدب العربي. وقد نُشِرت كثير من قصائد هؤلاء الحضارم في المجلات العربية. والذي يهمنا هنا هو إبراز الدور الريادي لاثنين من الشعراء الحضارم في التمهيد لترسيخ قصيدة التفعيلة، أو الشعر الحر أو المرسل، في الشعر العربي الحديث وهما: علي أحمد علي باكثير وحسن عبد الرحمن السقاف.

بدأ باكثير حياته الأدبيَّة في سيئون بنَظم الشعر وهو في سن الثالثة عشرة. وقد مرّت تجربته الشعرية بثلاث مراحل. فقصائده الأولى التي جمعت في ديوانه (أزهار الربا في شعر الصبا)، تلتزم بتقاليد مدرسة الإحياء الاتباعيَّة، وتعكس قصائد المرحلة الثانية مدى تأثر باكثير بالمدرسة الرومانسية الإبداعية. أما تجربته مع الشعر المرسل أو الحر فقد تجلت أساسا في ترجمته لمسرحية شكسبير (روميو وجوليت) سنة 1936. وعمليّاً تَكمُن ريادة باكثير في أنه حطَّم وَحدة البيت وتخلص من القافية واستحدث وحدة الجملة الشعرية. ويؤكد الدكتور عز الدين إسماعيل: “لم تقف تجرِبة باكثير عند حدِّ التخلص من القافية الرتيبة مع الاحتفاظ للبيت الشعري بوحدته؛ بل امتدَّت إلى وَحدة البيت نفسه فحطَّمتْها، واصطنعت – بدلاً منها – وحدة التفعيلة. ومن جِهة أخرى عرَف باكثير بالممارسة أنه لم تَعُد هناك عندئذٍ ضرورةٌ للالتزام في السطر الواحد بعدد ثابت من التفعيلات، فالجملة الحوارية قد تطول وقد تقصر وَفْقًا لما يقتضيه الموقف، ومن ثم حَلَّت فكرة الجملة الشعرية المُنطلِقة محل البيت الشعري المغلَق”.

ومن المعلوم أن باكثير قد واصل توظيف الشعر المرسل في ترجمته لمسرحيَّة (إخناتون ونفرتيتي) عام 1938م. وسنة 1941 كتب باكثير مسرحيَّة ثالثة بالشعر الحر، (الوطن الأكبر)، لكنه لم يَنشُرها إلا بعد أن أعاد صياغتَها نثرًا بطلب من المخرج المسرحي حسن النجار.

لقد وظف علي باكثير تفعيلة بحر المتدارك (فاعلن) لكتابة الشعر المطلق. واعترف عدد كبير من الشعراء العرب لباكثير بالريادة في كتابة شغر التفعيلة أو الشعر الحر؛ منهم الشاعر الكبير بدر شاكر السياب، الذي أقرَّ بريادة باكثير في مقال له بمجلة الآداب البيروتية، على الرغم من تأكيد نازك الملائكة سنة 1947 أنها أول من كتب بتفعيلة بحر (المتدارك). ومن المعلوم أن صلاح عبد الصبور وعبد الرحمن الشرقاوي ومعين بسيسو وغيرهم من شعراء المسرح الشعري، قد وظفوا فيما بعد تفعيلة البحر المتدارك في كتابة مسرحياتهم الشعرية.

وإذا كان معظم النقاد يجمعون اليوم على أن الأديب علي باكثير أول من مارس كتابة شعر التفعيلة في اللغة العربية، فمن الواضح أنه لم يمارس كتابة هذا النوع من الشعر إلا في المسرح الشعري، ترجمةً وكتابةً. أما بالنسبة للريادة في كتابة قصيدة التفعيلة في الشعر العربي فعلينا أن ننسبها لأديب حضرمي آخر؛ إنه حسن بن عبيد الله السقاف.

وقد لد حسن بن عبد الرحمن بن عبيد الله السقاف سنة 1915، وفي سنة 1943 نشر الحاج عبد الحميد عبادي الديوان الأول لحسن السقاف بعنوان (ولائد الساحل) الذي طُبِع في القاهرة وتضمن قصيدة (درب السيف) [أي طريق الشاطئ]، التي ألفها الشاعر سنة 1939 حينما كان مدرسا بالمكلا، في بداية الحرب العالمية الثانية التي وصفها في القصيدة بـ “الحرب العَوان”.

في هذه القصيدة، التي ألّفها حسن السقاف، قبل أن تمارس نازك الملائكة أو بدر شاكر السياب كتابة شعر التفعيلة بتسع سنوات، لم يلتزم الشاعر بالقافية وعمود الشعر العربي كما حصر بحوره الخليل بن أحمد الفراهيدي، بل قسمها إلى (سطور)، مبنية على عدد متغيرّ من تفعيلة بحر المتدارك (فاعلن)، ولم يلتزم الشاعر بتقسيمها إلى صدر وعجز. لذلك رأى كثير من النقاد في (دري السيف) أول قصيدة تفعيلة في الشعر العربي الحديث.

باكثير والريادة المسرحية:

ومن المعلوم أن علي باكثير قد أصبح كاتبا عربيا مرموقا بفضل كتابته للمسرح والرواية. فهو يعدُّ علامةٌ بارزةً في المسرح الشعري العربي، وقد عُرِف بوفرة إنتاجه في مجال المسرح بشكل عام؛ إذ أنه قد ترك لنا فيه أكثر من خمس وثلاثين مسرحية نثرية، وعشرات المسرحيات الشعرية، متنوعة الأحجام والمضامين.

ومع ذلك يجهل الكثير أن علي باكثير قد اقترب من الجنس المسرحي قبل أن تطأ قدمه أرض الكنانة، وقبل أن يشرع في دراسة مسرحيات شكسبير وترجمة بعضٍ منها عقب وصوله إلى مصر مباشرةً. ففي سنة 1933، بعد أن اضطر باكثير لمغادرة حضرموت واستقر مؤقتا في الطائف بالمملكة العربية السعودية، شرع في تأليف مسرحية نلمس فيها اطلاعه على مسرحيات أحمد شوقي الشعرية وتأثره بها؛ إنها مسرحية (همام في بلاد الأحقاف)، التي صدرت عن المطبعة السلفية بمصر سنة 1934، وأعادت مؤسسة الصبان وشركاؤه بعدن نشرها مع تغيير طفيف في عنوانها ليصبح (همام أو في بلاد الأحقاف).

فنيّاً تنتمي مسرحية (همام أو في بلاد الأحقاف) لبدايات المسرح الشعري العربي كما نجده عند أحمد شوقي وعزيز أباظة. ولا شك أن الشاب علي باكثير قد برهن في هذه المسرحية على قدرته على التصرف بعمود الشعر العربي وتطويعه للحوار المسرحي بطريقة متميّزة تفسر لنا ما قام به بعد ثلاث سنوات في ترجمته لمسرحية شكسبير (روميو وجوليت). وتذكر الباحثة الجزائرية كريمة السايح المبارك في أطروحتها (بناء المسرحية الشعرية في همام أو في بلاد الأحقاف لعلي أحمد باكثير، 2016) أن “باكثير لم يتقيّد بالقصيدة العمودية في المسرحية وإنما اعتمد أيضا الشعر الحر أو شعر التفعيلة، وهذا ما جعل الإيقاع يختلف في الأبيات باختلاف البحور وتفعيلاتها، وأكثر الشاعر في معظم القصائد من البيت المدوّر بغرض إضفاء إيقاع شعري متجانس في الحوار، لقد قدم لنا علي أحمد باكثير هذه المسرحية في طابع مختلف، لذلك نقف أمام دراما شعرية تحمل في طياتها تغيير واقع اجتماعي.”

المصدر

جوجل نيوز

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى