المقالات

مقاربات في إشكالية الهوية (7,8)

(7)

البناء الاقتصادي وتوسيع دائرة الخدمات الاجتماعية وما ترافق معها من ولادة المصالح المشتركة بين السواد الأعظم من أبناء الحنوب.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
اقترنت منظومة المصالح المادية التي نشأت في الفترة ما بعد تحقيق الاستقلال الوطني وقيام الدولة الجنوبية الجديدة (1967-1990م) بقيام اقتصاد وطني جرى بناؤُهُ على خلفية مجموعة الاقتصاديات المتهالكة والبدائية التي ورثها النظام الوليد من كيانات ما قبل الاستقلال، من السلطنات والمشيخات والإمارات.
وباستثناء مستعمرة عدن التي عرفت عدداً من المرافق الاقتصادية العصرية كالميناء والمطار والمصفاة وبعض المصانع والمعامل الصغيرة إلى جانب التوكيلات التجارية والمرافق السياحية وغيرها من المكونات الاقتصادية والخدمية المعاصرة نسبياً، فإن اقتصاد بقية السلطنات والإمارات ما قبل الاستقلال كان قائما على الزراعة البدائية في معظم مناطق الجنوب، مع بعض المشاريع التحديثية التي شهدتها بعض المناطق الزراعية الساحلية مثل دلتا أبين وتبن وبغض مناطق حضرموت، أو على الاصطياد البحري بالوسائل البدائية في المناطق الساحلية وما عدا ذلك فإن معظم السكان في بقية المناطق وهي المساحات الأوسع من دولة ما بعد الاستقلال كانت تعتمد على الزراعة البدائية التي تعتمد في ريها على مياه الأمطار الموسمية، وعندما كانت الأمطار تنقطع كان السكان يتعرضون للمجاعة وما ينجم عنها من فقر دم وسوء تغذية واننتشار الفقر والأمراض والأوبئة.
وهكذا فقد بنت دولة الجنوب الفتية اقتصادها على هذه الأسس الضعيفة وانطلقت الحكومة الجديدة في وضع اللبنات الأولى للاقتصاد الجديد من خلال اعتماد الخطط الاقتصادية، الثلاثية والخمسية.
ووفقا للسياسة الاقتصادية القائمة على أسس التوجه الاشتراكي فقد ارتكز الاقتصاد الوطني على أربعة قطاعات هي القطاع العام (الحكومي) وهو القطاع السائد والمهيمن، القطاع الخاص، القطاع المختلط والقطاع التعاوني، وبني القطاع العام الحكومي على خلفية المؤسسات الموروثة مما قبل الاستقلال وما جرى تأميمه من المصالح الاقتصادية الأجنبية ثم بناء مجموعة من المصانع الوطنية الجديدة المعتمدة على المواد الخام المحلية، كالصناعات السمكية والزراعية، وصناعة الغزل والنسيج والعطور والتبغ والكبريت ومعجون الطماطم وحلج القطن، والمصانع المنتجة للأدوات الزراعية وغيرها، فضلا عن تطوير الخدمات الملاحية من خلال ميناء عدن وموانئ المكلا والشحر وبعض الموانئ الصغيرة في المهرة وشبوة وأبين وإنشاء شركة أحواض السفن وغيرها من الصناعات التحويلية والخدمية التي جرى تأسيسها هنا وهناك، وبجانب هذا كانت مزارع الدولة المنتشرة في عدد من المحافظات الزراعية تشكلُ جزءاً مهما في بنية القطاع العام.
وقد بُنِي القطاع التعاوني على أساس الجمعيات التعاونية للخدمات الزراعية والاستهلاكية وخدمات الاصطياد السمكي التي نشأ بعضها ما قبل الاستقلال وغالبيتها جرى إنشاؤها بعد الاستقلال، وتركز نشاطها في مجالي الزراعة والأسماك فضلا عن التعاونيات الخدمية ومعظمها تجارية.
أما القطاع الخاص فقد شمل الاستثمارات الخاصة لبعض رجال الأعمال في بعض الصناعات والزراعة وقطاع الخدمات والصناعات الخفيفة والمقاولات، وشكلت المشاركات بين هذاالقطاع وبين القطاع الحكومي ما سمي بالقطاع المختلط.
يمكننا الحديث طويلاً عن هذه القطاعات والمنشآت التي شهدت البلد ميلادها بعد الاستقلال وشكلت لب الاقتصاد الوطني الجنوبي في ظل الدولة الجنوبية الجديدة والذي لم يكن مزدهرا بالمقارنة مع التحديات التي كانت ماثلة ومع ما شهده العالم من نهوض اقتصادي واستثماري وخدمي، لكن ما يهمنا هنا هو إن تلك القطاعات قد استوعبت مئات الآلاف من الأيادي العاملة عالية ومتوسطة التأهيل، وهو ما شكل طبقة اجتماعية عريضة ارتبط بعضها بمصالح ذات طبيعة مصيرية تحولت بمرور الزمن إلى عاملٍ من عوامل ترسيخ الهوية الجنوبية لما ترتب عليها من شبكة مصالح مصيرية صارت أشبه بالرابط السحري التي يربط أعضاء المجتمع ببعضهم ويجعل مصير بعضهم جزءً من مصيرهم جميعاً
وفي إطار عمليات التحول الاجتماعي والخدمي والاقتصادي علينا أن لا ننسى ذلك التحول المهم الذي شهده قطاع الخدمات بجميع مناحيه، فقد تمكن النظام الوليد في جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية أن يبني نظام خدمةٍ طبيةٍ تمكنت من منافسة الكثير من البلدان المجاورة وتفوقت على الكثير من البلدان العربية بما فيها الجمهورية العربية اليمنية من حيث استئصال العديد من الأمراض الوبائية كالجذام والملاريا وأمراض الأطفال الستة والجدري وغيرها، مع ما شهده قطاع الخدمة الطبية من تقديم خدمة مجانية لكل أبناء البلد تشمل كل ما له صلة بالتطبيب والتمريض ورعاية الأمومة والطفولية، بدءاً بنظام الكشف والتشخيص وتقديم الدواء وانتهاءً بإجراء العمليات الجراحية المعقدة، في الداخل أو في الخارج تتحمل الدولة كل تكاليف ذلك مع أية نفقات مرافقة كتذاكر السفر للمريض ومرافق له والإقامة وغيرها عند إجراء العلاج خارج أراضي الجمهورية.
ومثل القطاع الطبي جرى تحديث قطاع التربية والتعليم بدءاً بدور الحضانة ورياض الأطفال مروراً بالمرحلة الابتدائية والإعدادية والثانوية، حتى الدراسة الجامعية، ودرجات التعليم العالي المتمثل في طلاب الماجستير والدكتوراه، وتحملت الدولة نفقات التغذية المدرسية من دور الحضانة ورياض الأطفال حتى الأقسام الداخلية للمراحل الابتدائية والإعدادية والثانوية وكليات جامعة عدن، مع مدفوعات مصاريف الجيب المختلفة لتلاميذ المدارس وطلاب المعاهد والجامعات، فضلاً عن مصاريف النقل والمواصلات المدرسية التي لم تتوقف إلا صبيحة 23 مايو 1990م
وبجانب ذلك جاءت خدمات التأمينات والإعانات الاجتماعية لتشكل خط دفاع يحمي الطبقات الفقيرة والمتقاعدين من الوقوع في شراك الإملاق والمجاعة، وبالرغم من محدودية التطور الاقتصادي وضيق الموارد الاقتصادية فقد اختفت ظاهرتي الفقر والبطالة ووصلت الخدمات الاجتماعية مستوى لم تبلغه الكثير من البلدان المجازرة بما في ذلك بعض البلدان النفطية الثرية.
ومما يؤخذ على السياسات الاقتصادية والاجتماعية التي شهدتها البلاد في الفترة بين العامين 1967م-1990م أنها ومن خلال إجراءات التأميم قد ألحقت ضرراً كبيراً بالرأسمال الوطني وأدت إلى نزوح رجال المال والأعمال للنشاط خارج البلد وحرمان البلاد من واحد من أهم موارد التنمية والنهوض الاقتصادي، كما اتخذت نظام المركزية الحكومية الصارمة واعتمدت بشكل أساسي على القطاع الحكومي الذي لم يكن بمقدوره القيام بوظائف الرأسمال المحلي الخاص، ناهيك عما كان يمكن أن تلعبه الاستثمارات الرأسمالية الأجنبية فيما لو منحت الفرص المناسبة لممارسة نشاطها الاستثماري على أرض الجنوب، مما أدى إلى نشوء اقتصاد أحادي مشوه ومتخلف تسبب في ركود عام استمر لعقدين من الزمن، ويرى الكثير من الاقتصاديين أنه وبسبب السياسات ذات التوجه الاشتراكي وعدم وجود استثمارات في التنقيب على المعادن والثروات النفطية، قد حرمت الساحة الجنوبية من إمكانية خوض منافسة بناءة مع جاراتها العربيات مما جعل الاقتصاد الجنوبي عاجزاً عن اللحاق ببقية الاقتصادات العربية.
إن هذه الأمور وغيرها ليست موضوع بحثنا المباشر، ولا يمكن مناقشتها في هذا المقام إلا من منطلق علاقتها المباشرة أو غير المباشرة بنشوء وتطور الهوية الجنوبية التي هي موضوع بحثنا هنا، وهي أمور تستحق التوقف عندها في سياق آخر، مع الإشارة إلى أن لتلك المآخذ المبررة مسبباتها التي ترتبط بظروف لحظتها التاريخية وملابساتها المختلفة المتصلة بالصراع العالمي على الصعيد الدولي والإقليمي ومؤثرات الحرب الباردة وكل ما يتصل بها من تعقيدات صبغت كل اقتصاديات المنطقة، ولم تكن اليمن الديمقراطية بعيدةً عن كل هذا، وهو ما يتشعب الحديث فيه كثيراً.
كما إن ما شهده الجنوب من خطوات ترسيخ معالم الدولة الجديدة وبناء شبكة العلاقات والمصالح الوطنية التي تخص كل المواطنين: الجيش الوطني الجديد، المؤسسة الأمنية الوطنية، المنظومة الإدارية والقانونية والدستورية الجديدة، تعزيز روح القانون الذي يطبق على الغفير والوزير على السواء، التواشج والتكامل والانسجام بين حقوق المواطنين وواجباتهم، إقامة منظومة قضائية تتميز بالصرامة من ناحية وبالعدل والنزاهة من ناحية أخرى وبالسلاسة والديناميكية من ناحية ثالثة، وتنمية وتعزيز الوعي بالانتماء إلى الوطن الواحد الجديد الموحد، كل ذلك وسواه من الإجراءات التي انعكست مباشرة على حياة المواطنين جعل كل المستفيدين منها وهم الغالبية الساحقة من السكان يشعرون فعلا بالانتماء إلى كيان واحد يعبر عن كينونتهم ويحمي وجودهم ويجسد مصالحهم ويعتزون بالانضواء تحت لوائه ويفاخرون بحمل رموز هويته (البطاقة الشخصية وجواز السفر الجنوبيين)، وكانت الوثائق الصادرة من اليمن الديمقراطية كالشهادات المدرسية والجامعية، وشهادات القضاء والتوكيلات والتفويضات المختلفة المعمدة من المحاكم الجنوبية أو الممثليات الجنوبية في الخارج، كانت محل ثقة لدى جميع المنظمات الإقليمية والدولية والدول والبلدان العربية والأجنبية حتى تلك التي لم تكن ترتبط بعلاقات حسنة مع جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، لما تمتع به النظام من سمعة طيبة من حيث دقة البيانات وتحريم وتجريم التزييف والتزوير للمستندات الرسمية ومحاربة أي مظهر من مظاهر الفساد الإداري أو المالي أو الأخلاقي بشكل عام.
لقد تشكلت الهوية الجنوبية ونمت وازدهرت على خلفية هويات متعددة تراجعت وتضاءل حضورها بل وكادت أن تختفي لأن حضورها لم يعد له قيمة سوى تلك القيمة التاريخية وبعض الملامح الثقافية التي شكلت مع بعضها عامل خلق وإبداع وثراء للهوية الجديدة (الهوية الجنوبية) ولم تشكل قط سبباً من أسباب التنافر والتصادم ، وحتى في أسوأ الظروف (مراحل النزاعات السياسية والمسلحة) لم تتمكن تلك العواصف من التأثير على الهوية الجنوبية نظرا لبقاء العوامل الأهم في تكوين الهوية وهي الثقافة الشعبية والرابطة التاريخية والمكون الاقتصادي والمصالح المادية والمعنوية والقيم الأخلاقية المشتركة بين السواد الأعظم من سكان الجنوب.

مقاربات في إشكالية الهوية (8)

ربما كان عمر جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية كنظام سياسي قصيراً، بالمقارنة مع ما يتطلبه عمر دولة وطنية بهوية وطنية متكاملة الأركان والشروط، لكننا نستطيع القول إنه وخلال تلك الفترة القصيرة كان مجرد شعور أي مواطن جنوبي بالانتماء إلى هذا البلد مصدر فخر واعتزاز وهو يعبر الحدود والمطارات، رغم نفور بعض الأنظمة الشقيقة وغير الشقيقة من اسم جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية ونظامها السياسي، بفعل الصراعات السياسية والأيديولوجية، ومؤثرات الحرب الباردة ونزاعات القطبين الدوليين المهيمنين على العالم.
وإذا ما أخذنا تلك المعايير الأكاديمية الصرفة التي تحدثنا عنها سلفاً فإنه بإمكاننا الإشارة إلى حضور تلك المتطالبات الأساسية للهوية الواحدة، سواء ما يتعلق منها بالموقع الجغرافي الواحد، أو الذاكرة التاريخيّة الوطنية المشتركة، أو الثقافة الشعبيّة المتقاربة والموحّدة أو شبكة الحقوقٌ والواجباتٌ المشتركة المرتبطة بالقانون العام أو تلك التي تنشأ في إطار العلاقات الاجتماعية العفوية بين الناس، كما كان وجود الحياة الااقتصادية والمعيشية المشتركة قد مثل مصدراً لوحدة المصالح المادية المتناسقة مع وحدة المصالح المعنوية التي تشملها منظومة الثقافة الشعبية والقوانين والتشريعات الوطنية.
إن هذه المقومات نشأت ونمت واتسعت وتعمقت في حياة المواطنين الجنوبيين، عبر عقود من الزمن، وكان قيام الدولة الجنوبية لحظةً حاسمةً في ثبات وصيرورة هذه المتفاعلات التي غدت تمثل المداميك الأساسية للهوية الجنوبية التي يتحدث عنها الجنوبيون اليوم وهم ينافحون عن حقهم في استعادة دولتهم وبناء كيانهم الوطني المستقل الجديد المعبر عن آمالهم وتطلعاتهم وعلى أرضهم وأرض آبائهم وأجدادهم.
وقبل الخروج من هذا الفصل وتعميماً لكل ما قيل أعلاه لا بد من التعرض لعدد من التأكيدات المهمة ذات الصلة الجوهرية بعملية نشوء وتطور الهوية الجنوبية وما ترافق معها من صور وأشكال لتمظهرات موازية تتعلق بالهوية الجنوبية كمعبر عن الانتماء الوطني لكل أبناء الجنوب إلى أرضهم وشعبهم ويمكن تلخيص هذه التأكيدات في الحقائق التالية:
1. إن الهوية الجنوبية لم تنشأ بمرسوم إداري أو قرار سياسي كما أن نشوءها لم يتم بين عشية وضحاها ولم ينجز بعصا سحرية بل إنه جاء نتيجة طبيعية لتفاعل جملة من التطورات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والتاريخية التي استغرقت عقوداً من الزمن، جرت الإشارة إليها في سياق هذا الفصل.
2. إن نشوء وتطور الهوية الجنوبية لم يسر في خط مستقيم وعلى طريق ناعم خالٍ من المسالك الشائكة والعوائق المثبطة بل لقد نشأت هذه الهوية وتنامت في أتون معتركات صعبة على طريق طويلٍ ومتعرج ومسالكَ معقدة نسبياً لكنها تمخضت عن تلك الولادة الحية والمعافاة.
3. إن الهوية الجنوبية لم تمثل إلغاءً للهويات البينية التي تشكلت منها أو بنيت على اندماجها ببعضها، بل لقد احتفظ أصحاب تلك الهويات بالكثير من مميزات مناطقهم وموروثاتهم الثقافية وذاكرتهم التاريخية، ولو تذكرنا احتفال أبناء حضرموت بيوم الشهداء السبعة، ومظاهر اللهجة السقطرية والمهرية، والتمايزات المعمارية في شبوة وأبين ويافع، وأغاني الصيادين في راس العارة وشقرة والشحر ونشطون وما يترافق معها من عادات وتقاليد تميز بين هذه المناطق كما تميز كلاً منها عن سواها لاكتشفنا ما تتمايز به الذاكرة التاريخية والثقافة الشعبية لهذه المناطق مع بعضها وذلك الطيف الجميل في تكوين الثقافة الشعبية الجنوبية، ولرأينا أن هذا التمايز وتعدد ألوان قوس قزح الثقافية والشعبية بين مناطق الجنوب لم يكن إلا عنصراً من عناصر إغناء هذه الثقافة الشعبية الجنوبية الأم ومن ثم عنصر إثراء للهوية الجنوبية لا سبباً من أسباب تنافر مكوناتها أو التهام بعضها بعضاً.
4. ومع ذلك وبسبب التفاعل الجدلي الموضوعي بين العمليات التاريخية السياسية والاقتصادية وبين ما يرافقها من عمليات وتداعيات ثقافية ومعنوية موضوعية فإن ما شهدته مرحلة بناء الدولة الجنوبية من شطحات (ثورية) وخطوات إرادوية (مزاجية) ومحاولات لـ”حرق المراحل”، وتطبيق إجراءات وسياسات غير مدروسة بشكل كافي، كل هذا قد خلق انعكاسات سلبية في صيرورة عملية التحول نفسها، مما أبطأ من عملية النمو الاقتصادي والاجتماعي، وألحقَ تشويهات ضارة بالوعي الوطني، أثرت سلباً في عملية ترسخ الهوية الوطنية الجنوبية لكنه لم يلغِها أو يحول دون ديمومتها وحيويتها.
5. إن بعض المكونات الماضوية ذات القيمة السالبة القادمة من تلك الهويات ما قبل الدولة الجنوبية، لم تضمحل ولم تمت بصورة نهائية، بل بقيت كامنة في الزوايا الخفية للوعي الاجتماعي العفوي، لكنها بقيت قابلة للانتعاش في أي لحظة موائمة، وهذا ما جرى في بعض فترات الصراعات الداخلية بين الأقطاب السياسية في إطار القيادة الجنوبية الواحدة، وقد كان لهذا تأثيراً سلبياً على سرعة تنامي وحضور الهوية الجنوبية الواحدة، ووجدت في الصراعات الجنوبية-الجنوبية تعبيرا ًمكثفاً عنها، بيد أن هذا التأثير لم يؤدِ إلى اضمحلال الهوية الجنوبية أو ضمورها وهذا ما تأكد عند ما كانت الهوية الجنوبية معرضة لخطر الاقتلاع بعد غزو أرض الجنوب واحتلالها في العام 1994م وما بعده.
هذه الظواهر إنما كانت تعبر عن عدم اكتمال عملية الاندماج بين أصحاب الهوية الجنوبية الجديدة أو بعبارة أخرى إن الطريق الذي مر به نشوء وتطور ونمو الهوية الجنوبية لم يكن سلساً ولا وردياً، وإن العناصر السلبية في مكونات الهويات السابقة قد مكثت أو ترسبت في مخابئ قصية من الذاكرة الشعبية، ولم تغادر نهائياً، وبقيت لتعبر عن نفسها في اللحظات الحرجة من تاريخ التجربة الجنوبية، ومع كل ذلك فإن ظهورها في لحظات معينة من تاريخ التجربة الجنوبية، لم يؤدِّ إلى ما تمناه أعداء الجنوب وقضية الجنوب في تصفية ومسخ تلك الهوية.
6. ومن المهم الإشارة إلى إنه قد جرى استدعاء تلك الترسبات في الوعي الجمعي الشعبي ليستخدمه الوافدون ما بعد 7/7 في سبيل تفكيك اللحمة الوطنية الجنوبية وإنعاش هويات ما قبل الدولة في الكثير من المناطق الجنوبية من خلال محاولات إحياء العلاقات العدائية القائمة على نزاعات الثأر والحروب القبلية والجهوية، وإعادة البلد إلى أزمنة ما قبل الدولة من خلال تنشيط الواجهات التقليدية البديلة للدولة الحديثة، وقد أفلحوا أحيانا لكنهم أخفقوا في معظم الأحيان.
7. وبما إن الهوية ظاهرة تاريخية تولد وتنشأ وتنمو وتشيخ وقد تصغر أو تكبر وقد تشهد اتساعاً أو انكماشاً، فإن كل هذه الطبائع تنطبق على الهوية الجنوبية في كل المراحل التاريخية التي مرت بها منذ البزوغ والتنامي، فالنشوء والاتساع، وحتى لحظات محاولة الطمس والمسخ، حيث إنها لم تعرف استقراراً، وبالتالي لا يمكن الحديث عن معطىً جاهزٍ في حالة واحدة من التوقف والثبات والاستقرار، بل لقد ظلت في حالة من الحركة والصيرورة والتغير تبعاً للظروف التاريخية والملابسات الاقتصادية – الاجتماعية والسياسية ومن هنا فإنه لا يمكن الحديث عن هوية جنوبية جاهزة وثابتة إلى الأبد.
8. ولعل من أعجب وأطرف ما شهده تاريخ الهوية الجنوبية هو إن ذلك التصاعد والتنامي المذهل والمثير للدهشة في التعبير عنها والتعلق العجيب بها قد تجلى في مرحلة الانتكاسة والهزيمة التي تعرض لها الجنوب بعد حرب 1994م حيث تصاعد التعبير عن التمسك بتلك الهوية في أزهى لحظات المقاومة السلمية الجنوبية، وهو ما سنتوقف عنده في مكان آخر من هذه الدراسة.
لقد ظل الجنوبيون طوال فترة ما قبل 1990 يقدمون أنفسهم كيمنيين في جميع المحافل الإقليمية والدولية وفي كل المناسبات الرسمية وغير الرسمية ، كما في الملتقيات الاعتيادية الشعبية، ولهذا مبرراته المرتبطة بحب الوطن والتاريخ والإنسان وبما أسميناه بـ”الإرادوية” والاندفاع العاطفي وثقافة “حرق المراحل” التي رافقت مرحلة المد القومي العروبي، وتحويل التمنيات إلى شعارات ظل الكثيرون من حملتها يعضون عليها بالنواجذ، لكن عند ما تكشفت الحقيقة بعيد العام 1990م وبالذات بعد 1994م اكتشف الجنوبيون أن حلم “الهوية اليمنية الواحدة” كان مجرد شعارٍ سياسيٍ عابرٍ، وفي أحسن الأحوال أمنية طيبة ونبيلة لم تتوفر لها مقومات جاهزة أو حتى قابلة للولادة والاستنبات على أرض الواقع بل لقد تحول هذا الشعار النبيل لدى الجنوبيين إلى أداة من أدوات محاولة مسخ واقتلاع لهويتهم الأصلية وعامل من عوامل إكراههم على تقبل هوية ليست بالضبط الهوية التي حلموا بها، وهي هوية لا توجد أصلاً في سياق الحياة اليومية حتى لأصحابها، وهذا ما سنتناوله في موقعٍ آخر من هذه الدراسة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ملخصات من كتابي “القضية الجنوبية وإشكالية الهوية” الصادر عن دار يسطرون، القاهرة 2023م

المصدر

جوجل نيوز

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى